في كتابه الجمهورية، اعتبر أفلاطون أن الصراع أزلي بين منظومة الخير والشر، وكلما كانت منظومة الردع العقلي قوية، كانت الذات سوية تنحو تجاه الخير، وعند ضعفها تستمد الذات توجهاتها وسلوكها من قيم الشر، ويرى أن صورة الخير هي الحد الأقصى لكمال العالم العقلي.

كانت الفترة التي كتب فيها أفلاطون كتابه "الجمهورية" فترة تدهور في التاريخ اليوناني، فقد انتهت الحرب البلوبونيزية بالهزيمة الساحقة لأثينا، وكان أفلاطون في الثالثة والعشرين من عمره عندما وضعت الحرب أوزارها، تاركة أثينا في حالة من الإنهاك السياسي والاقتصادي، لذا كان من الطبيعي أن تهتم كتاباته بالقضايا السياسية والاجتماعية، وأن يحاول استخلاص بعض الدروس المستفادة من هزيمة أثينا وانتصار أسبرطة.

وعندما شرع في بناء مدينته المثالية، اتجه إلى إسبارطا واتخذها أنموذجاً له، لكنه لم يقلد هذا الأنموذج تقليد العبيد، بل كانت جمهوريته أشبه بالتنظيم التسلطي لإسبارطا منها بالتنظيمات الحرة التي تمتعت بها المدن اليونانية الأخرى. وفي مقابل روح الاستقلال والنزعة الفردية المتطرفة التي تميزت بها الحياة اليونانية، وضع أفلاطون تصوره عن دولة قوية متجانسة وقائمة على مبادئ تسلطية[1].

ولا تزال جمهورية أفلاطون أساساً متيناً ومصدراً هاماً لكل المدن التي كتبها الفلاسفة من بعده، وعلى الرغم من أنه كان يسعى إلى تكوين شعب سعيد ينعم بالحرية والرفاه، ومع أن كتابه عُرف بجمهورية أفلاطون، على أنه كاد يُخصص لتربية رئيس المدينة، فأفلاطون كان يهدف إلى تربية الملك الفيلسوف لأن المجتمعات برأيه تسعد إذا ما حكمها ملك فيلسوف.

لكن صنع الملك الفيلسوف صعب، فالملك ملك، والفيلسوف فيلسوف، لذلك رأى أنه لا بأس في أن يتفلسف الملوك، أي أن يتزود حكام المدينة بالحكمة كي يديروا شؤون الدولة على الوجه الأكمل.

وفي كتابه الجمهورية، اعتبر أفلاطون أن الصراع أزلي بين منظومة الخير والشر، وكلما كانت منظومة الردع العقلي قوية، كانت الذات سوية تنحو تجاه الخير، وعند ضعفها تستمد الذات توجهاتها وسلوكها من قيم الشر، ويرى أن صورة الخير هي الحد الأقصى لكمال العالم العقلي، كذلك يرى أن جميع المعقولات تستمد من الخير الأعلى وجودها وماهيتها، وأن الخير الأعلى هو أساس العلم والحقيقة.

ويبيّن أفلاطون أن الطبيعة البشرية أنانية تسعى لتحقيق الذات على حساب الآخرين، خاصة عند اختلال نظامها الإداري، لذا يتعين عرض نظام اجتماعي محكم للسيطرة على أفعال وسلوكيات البشر بما يحقق الأمن والاستقرار الاجتماعي من خلال فرض القانون على الجميع، وهذا النظام الرادع يشكل الضمان اللازم لتمسك الخارجين عن حدود المجتمع بالعقد الاجتماعي[2].

وبالنسبة إلى أفلاطون فالعدالة هي أساس الملك، تأتي من كونه لا يريد أن تصدر الدولة قراراً ظالماً بحق أي شخص بعد كل ما حصل لسقراط العظيم، إنه من خلال جمهوريته يريد دولة تعاقب المجرم لا البريء، وتكافئ الخيّر لا الشرير. فالعدالة هي المبدأ الأول من فلسفته السياسية، وهي عدالة ذات طابع جماعي وليس فردياً.

وأفضل حاكم في نظره هو الفيلسوف، لكن بما أن الإنسان لا يمكنه أن يصبح فيلسوفاً حكيماً قبل سن الخمسين عاماً، فإنه لن يمارس السلطة قبل وصوله هذا العمر، ويفضل ألا يبقى في السلطة طويلاً، إنما يحل محله حكيم آخر، فالسلطة في نظر أفلاطون تُفسد أعظم البشر، وبالتالي التناوب على السلطة أمر ضروري.

كذلك رأى أن الديمقراطية تحمل في طياتها بذور الطغيان والتعصب والظلم، إن لم تقدها القوانين العادلة الحكيمة، ويتساءل: ألم يقتلوا سقراط باسم الديمقراطية؟ ألم يحكموا عليه بشرب السم بعد محاكمة جماهيرية ساهمت بها معظم الفئات في أثينا؟ ألم يصدر الحكم بناء على تصويت شعبي حر؟ ومع ذلك كان حكماً جائراً لأن الناس كانوا مضللين وخاضعين لقوانين خاطئة.

إذاً كان يرى أفلاطون في جمهوريته أن العدالة الاجتماعية تعني أن يحتل كل فرد المكانة التي يستحقها، المكانة التي ترتبط بقدرات الفرد الفطرية، ولا علاقة لها بأي مؤثر خارجي، لذلك عمد في جمهوريته إلى تقسيم الناس إلى فئات ثلاث وفقاً لقدراتهم الفطرية، كما أنه لم يرَ في هذه الطبقية التي صنعها منافاة للعدالة، بل كان يعتقد أنه يطبق الحق والعدل من خلال وضعه كل فرد في المكانة التي تتفق مع ما لديه من قدرات خصه الله بها، وليس بناءً على المستوى الاقتصادي لكل فرد[3].

ومن خلال تقسيم أفلاطون الناس إلى ثلاث طبقات يكون قد قسم النفس الإنسانية التي هي عنصر المجتمع وأساسه إلى ثلاث قوى وهي: القوة العاقلة (الحكام)، والقوة الغضبية (الحراس)، والقوة الشهوانية (عامة الناس). ويرى أنه من العدالة إبقاء كل طبقة بحد ذاتها وفصلها عن الطبقات الأخرى، فبالنسبة إلى طبقة الحكام الفلاسفة لا يجوز أن يتمتعوا بأي نوع من الملكية، ولا يكون لهم أسر وزوجات وأزواج إلا من داخل الطبقة نفسها، على أن يؤخذ الأطفال ساعة ولادتهم لوضعهم في الإصلاحية وقطع أي صلات مع ذويهم.

أما طبقة الحراس، فلا يحصلون على أي ملكية خاصة، وزواجهم يكون داخل الطبقة ذاتها بهدف النسل حسب حاجة الدولة، ويؤخذ الأطفال بعد ولادتهم لوضعهم بمكان مشترك حتى لا يُعرفون أبناء من بالتحديد. ويبقى الحق ببناء الأسرة وامتلاك وسائل الإنتاج والتوزيع لعامة الشعب فقط، لأن الملكية لا تعوقهم في أداء مهماتهم.

وفي جمهورية أفلاطون لم تفرض الطبيعة على المرأة أي عوائق تحول بينها وبين المشاركة الفعالة في حقوق وواجبات المواطنين الرجال لسد حاجات الدولة، وأكد أنها مؤهلة لنيل منصب الملك الفيلسوف، كما رأى أفلاطون أن إعادة الروح الإنسانية للمرأة لا يتم إلا بالانتفاع الكامل منها في الدولة والمجتمع، وهذا لا يحدث إلا إذا حُررت من السجن المنزلي التقليدي، حيث ينبع رأيه هذا من فكرته التقدمية المشهورة، بالقضاء على كيان العائلة الصغيرة الموجودة في جماعات معينة في أثينا، وتحويله إلى عائلة المجتمع.

وفيما يخص الزواج، تقوم الدولة باختيار الذكر المميز وجمعه بالأنثى المميزة، لتبنى علاقات زوجية على أساس الطبقة العقلية والتكافؤ الشخصي، ويرى أنه في هذا التصنيف يمكن تنقية شعب الجمهورية لإبقاء الجيد ومعالجة السيء.

ولم يكن أفلاطون أول من وضع نظرية فلسفية حول الطغيان السياسي، بل كان أول فيلسوف يلتقي بالطاغية وجهاً لوجه ويختبره بنفسه، ذلك حين اختبر طغيان النظام الديمقراطي الذي حكم على أستاذه سقراط بالموت عام 399 ق.م. لذلك صنف في جمهوريته النظم السياسية مختصراً إياها في خمسة أشكال أساسية هي: النظام الأرستقراطي، والحكم التيموقراطي، والحكم الأوليغاري، والديمقراطية، وأخيراً حكومة الطغيان وهي الأسوأ والأكثر فساداً[4].

الفارابي ومجتمعه الفاضل

لقد قصد الفارابي إلى تكوين مجتمع فاضل من نوع المجتمعات التي فكر فيها من قبله طائفة من فلاسفة اليونان، وأراد مثلهم أن ينشئ مدينته وفقاً للمبادئ الرئيسية التي تقوم عليها فلسفته وآراؤه في السعادة والأخلاق والكون وخالقه وما وراء الطبيعة.

ويقسم الفارابي المجتمعات إلى كاملة وغير كاملة، فالمجتمع الكامل هو ما يتحقق به التعاون الاجتماعي بوجه كامل، أما غير الكامل فهو ما لا يمكنه أن يكفي نفسه بنفسه، أو ما لا يتحقق به التعاون. والمجتمعات الكاملة عنده ثلاثة: أعظم وأوسط وأصغر، والأعظم هو الأكثر كمالاً، وهو انتظام العالم كله في مجتمع واحد تحت سلطة حكومة واحدة ورئيس واحد.

كذلك يقسم المجتمعات غير الكاملة إلى أربعة أنواع وهي: اجتماع أهل القرية، واجتماع أهل المحلة، واجتماع بسكة (جزء من المحلة)، واجتماع في منزل (أي الأسرة)، والأخيرة هي أنقص المجتمعات في نظره.

ويرى الفارابي أن التعاون في المدينة لا يلزم ان يكون على الخير، بل يمكن أن يجتمع الأفراد فيها على الشر، لأن الخير والشر يرجع إلى الإرادة والاختيار، كما أن تعاون أهل المدينة على الخير يتمثل في تعاونهم الإرادي على تحقيق السعادة لجميع الأفراد. والمدينة التي تتحقق فيها السعادة هي المدينة الفاضلة، وما يصدق على المدينة يصدق على غيرها من المجتمعات الكاملة.

ولا يصلح لرئاسة المدينة برأي الفارابي أي إنسان، بل يجب أن يتوافر شرطان، أحدهما كمال الاستعداد لها بحسب الفطرة والطبع، والآخر كمال التهيئة لها بما يمتلك من ملكات إرادية. والحكمة في نظره هي أهم ما يستقيم به أمر المدينة، وصفة الحكمة هي الصفة التي لا بد من توافرها في رئاسة المدينة، وإلا تعرضت للهلاك، وإذا أتت مدعمة بالصفات الأخرى فقد أوتيت خيراً كثيراً[5].

وإن رأس مدينة فاضلة واحدة أكثر من رئيس واحد في وقت واحد، لأنه لم تتوافر صفات الملك الفاضل جميعها في شخص واحد، بل تفرقت في عدة أشخاص، أصبحوا جميعاً مستحقين للرئاسة، وأصبح لهذه المدينة أكثر من رئيس، فإن جماعة هؤلاء الرؤساء بضم صفاتهم بعضها إلى بعض، يكمل بعضهم بعضاً، فيصبحون كرئيس واحد وتصبح نفوسهم كنفس واحدة، وهذا ينطبق على من يتولون رتبة دون الملك في مدينة فاضلة أو عدة مدن.

وأفراد المدينة الفاضلة تجمعهم صفات مشتركة فيما زُودوا به من معارف، وما أعدوا له من أفعال، ويختص أهل كل رتبة منهم بمعارف وأعمال يتميزون بها عن أهل الرتب الأخرى، كما أن الأفعال المشتركة والخاصة لأفراد أهل المدينة الفاضلة كلها أفعال فاضلة تنال بها السعادة، والأفعال التي تنال بها السعادة التي يزاولها أهل المدينة الفاضلة كلما واظب عليها الإنسان صارت النفس التي تسعد بها أقوى وأفضل، وأكمل في عالم النفوس، وأبعدتها عن عالم المادة ودنيا الأجسام، وهكذا إلى أن تصل في سلّم الكمال النفسي إلى وضع تستغني فيه عن العقل وعن الجسم الذي يقوم بالفعل، وعن المادة التي يستعان بها في الفعل، ويصبح كمالها كمالاً ذاتياً غير متوقف على فعل ولا جسم ولا مادة[6].

يوتوبيا توماس مور

يتحدث توماس مور في "يوتوبيا" كيف تتحقق العدالة للشعوب، وكيف يصان السلم، وكيف يمكن للملك أن يكون راعياً لشعبه، وليس سيفاً مسلطاً على رقابهم، وهو باختصار مقومات الدولة المثلى أو النظام المثالي للمجتمع، ويشير إلى أن السبيل لتحقيق العدالة هو اشتراكية الحياة، فالملكية الخاصة والعمل في سبيل تحقيق أكبر قدر من الربح الشخصي، هي أساس الحرب والظلم، لذا فالطريق الوحيد الذي لا يوجد سواه لتحقيق الرفاهية هو تحقيق المساواة في جميع الأمور.

وتشبه يوتوبيا بلاد الإنجليز في بعض نواحيها، وتعكس ما كان مور يرجوه لها في نواحٍ أخرى، فمدن يوتوبيا جميلة صحية، حسنة التخطيط ومتسعة الطرق، مبانيها متينة ويعمل سكانها على صيانتها، وتحيط بها حدائق يتبارى أصحابها على تنسيقها والعناية بها.

وبجزيرة يوتوبيا أربعة وخمسين مدينةً كبيرة تتكلم جميعها اللغة نفسها، ولها العادات والتقاليد نفسها، وتسودها ذات القوانين والنظم، وتحيط بها الأراضي الزراعية موزعةً بالتساوي بين المدن المختلفة، وتوجد في جميع أنحاء المناطق الزراعية منازل ريفية مزودة بجميع الأدوات الزراعية، ويقيم بها المواطنون الذين يعملون في فلاحة الأرض بالتناوب.

ولا يقل عدد أفراد الأسرة في الريف عن أربعين فرداً من الرجال والنساء، والجميع تحت رعاية رب الأسرة وربتها وكلاهما شيخ وقور، ولكل ثلاثين أسرة رئيس يدعى فيلارك. ويعود من كل أسرة إلى المدينة سنوياً عشرون من أفرادها بعد أن يقضوا سنتين في الريف، ويُرسل بدلاً عنهم عشرون غيرهم من المدينة وهكذا. كما يصدر من الريف المنتجات الزراعية إلى المدن، وعند الحصاد يأتي بعض سكان المدن لمعاونة أهل الريف، وذلك أن المشاركة والتعاون هما الأساس الأول للحياة في يوتوبيا[7].

أما نظام الحكم فيها فهو نيابي يعتمد على الانتخابات، حيث يتم اختيار عشرة من الفيلارك رئيساً لهم يدعى بروتوفيلارك، أو الرئيس الأول، وتنتخب الهيئة المؤلفة من الفيلارك ويبلغ عددها مئتي شخص الحاكم عن طريق الاقتراع السري، ويشغل الحاكم منصبه طيلة الحياة، أما الرؤساء الأوائل يجدد انتخابهم سنوياً إلا إذا أبدى أحدهم ميلاً للاستبداد، وباقي الرؤساء لا يشغلون منصبهم إلا لعام واحد.

ويتلقى اليوتوبيون العلم بلغتهم الأصلية، ويهتمون بالموسيقا والحساب والهندسة والفلك والفلسفة وما يتصل منها بالأخلاق، كما أنهم يربطون بين الدين والفلسفة، ولا يعتمدون على العقل وحده، وهم يؤمنون أن الروح خالدة، وقد خلقها الله للسعادة. فالسعادة عندهم هي السعي وراء اللذة الحقيقية وليس اللذة الكاذبة.

وليس في يوتوبيا عقوبات ثابتة، والقوانين هناك قليلة، كما أنهم لا يبرمون المعاهدات مع غيرهم من الشعوب، ويعتمدون على الثقة وحسن النية، ولا يدخلون حرباً إلا للدفاع عن بلادهم وبلاد أصدقائهم.

إذاً الحياة العامة والمحافظة على الأسرة هي أساس الحياة في المدينة، أما في الريف فنظراً لبعد المسافات وتفرق المواطنين يُسمح لهم بتناول الطعام في بيوتهم. والحقيقة ان إبقاء مور على الأسرة هو أحد السمات التي تميز بين يوتوبيا وجمهورية أفلاطون[8].

----

المراجع

[1] المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ماريا لويز برنيري، مؤسسة هنداوي ص 26.

[2] جمهورية أفلاطون المدينة الفاضلة كما تصورها فيلسوف الفلاسفة، دار الكتاب العربي، ص 9- 10- 69- 71.

[3] المرجع السابق، ص 72- 73- 78- 79.

[4] المرجع السابق، ص 83- 84- 122- 124- 190- 191- 193.

[5] المدينة الفاضلة للفارابي، علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ص 21- 38- 39- 57- 77.

[6] المرجع السابق، ص 88- 90- 91.

[7] يوتوبيا، توماس مور، أنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 54- 55- 63.

[8] المرجع السابق، ص 64- 65- 67- 68- 69.