في أول لقاء للقارئ مع إدواردو غاليانو، سيجد نفسه أمام نصوص بارعة، رشيقة وذكية، ولا تشبه نصوص الآخرين. فهو ماهر في إضاءة اللحظات التي يتحدث عنها بلغة فارهة وبسيطة في الوقت نفسه. في كتابه الأشهر والمؤلف من ثلاثة أجزاء "ذاكرة النار" يجد القارئ نفسه أمام كاتب حر، مغامر، شفاف وذكي وصاحب لغة خاصة. إنه يخلق نصوصه بلغة عابرة للقارات وللثقافات والأعراق.

عقبة زيدان

في كتابه "كلمات متجولة" يتابع غاليانو نصوصه الخاصة به وحده، بسلاسة لغوية فاخرة، فتبدو كل الأشياء عنده مؤنسنة، بدءاً من ذرة التراب والشجرة، وانتهاء بالمطر والثلج والرعد. الطبيعة كل متكامل، تتجاذب أطراف الحديث، وتعانق بعضها عندما تتوهج حباً. لا يفرق الإنسان ذراعه عن غصن شجرة، وحين تروى الحكاية، فالكل مشارك فيها بلا استثناء: "لا ينسج رواة القصص قصصهم أو يغنوها إلا حين تتساقط الثلوج". هكذا تنجز القصص. وهنود أمريكا الشمالية حريصون جداً على مسألة القصص. يقول: "حين تُروى القصص، لا تنتبه النباتات إلى نموها، والطيور تنسى أن تطعم صغارها".

عند غاليانو لا يمكن أن نستهين بالكلمة، بأن لها فعلاً أكبر من الواقع. الكلمة هي التي تصنع الحياة وتؤسس المستقبل: "في هاييتي، لا يمكن أن تروى الحكايات في النهار. وكل من يروي قصة قبل حلول الظلام، يلحق به العار: يرمي الجبل حجراً على رأسه، وتسير أمه على أربع. الليل يستخرج كل ما هو مقدس، وأولئك الذين يعرفون كيف يروون قصة، يعرفون أن الاسم هو المسمى".

هكذا تشارك الطبيعة البشر في الفعل، تنسجم مع اللغة في الحكاية، وتقوم بما تمليه عليها القصة. يندمج الاسم في المسمى، وترمي الكلمة سحرها على الجميع. حتى الجبل يقوم بعقاب من لا يحترم زمن القصة.، ومن لا يحترم الكلمة؛ "في لغة الغواراني الكلمة تعني: الكلمة والروح. ويقول هنود الغواراني إن كل من يكذب أو يبدد الكلمات يخون الروح".

حين تتمازج الكلمات على هواها، يبدأ التنبؤ، وتبدأ المغامرة، فكل من يخشى الحياة لا يولد أبداً. تفتح المغامرة نافذة على الممنوعات وتصر عليها: "على حائط مطعم في مدريد علقت لافتة تقول: الغناء ممنوع. على حائط في مطار ريو دي جانيرو علقت لافتة تقول: ممنوع اللعب بعربات الأمتعة. هكذا: لا يزال هناك بشر يغنون، وبشر يلعبون".

مقتطفات

"تقص ماجدة ليمونييه الكلمات من الصحف، كلمات من جميع المقاسات، وتحفظها في علب. تضع الكلمات الغاضبة في علبة حمراء، والكلمات الجميلة في علبة خضراء، والحيادية في علبة زرقاء. وفي علبة شفافة تحفظ الكلمات السحرية. أحياناً تفتح العلب على الطاولة، بحيث تتمازج الكلمات على هواها. عندئذ تقول لها الكلمات ما يحدث، وتتنبأ بما سيحصل".

"كل شيء له وجه وعلامة مثلنا جميعاً. الكلاب والثعابين والنوارس، أنت وأنا، الأحياء والأموات، وكل من يسير، أو يطير: جميعنا نملك وجهاً وعلامة. هذا ما يؤمن به هنود المايا. ويؤمنون أن العلامة، العلامة اللامرئية، هي وجه أكثر من الوجه المرئي، ولسوف تعرف من علامتك".

----

الكتاب: كلمات متجولة

الكاتب: إدواردو غاليانو

المترجم: أسامة إسبر

الناشر: دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2015