تشكل المراكز البحثية منظومات تساعد على تغيير طاقات التفكير برؤية مختلفة تحكمها الحاجة إلى التغيير والعصرنة. الأمر الذي يدفعنا إلى التكلم عن بيئة البحث العلمي والابتكار في العصر الرقمي الحالي، وكيف لجامعتنا ومؤسساتنا البحثية أن تشكل رقماً وقوة دافعة في هذا الاتجاه، وسط تساؤلات عديدة تتعلق بهذا العالم الرقمي، وماذا تعنيه البيئة الرقمية اليوم؟ وما هي البنى والعلاقات التي نفتقدها في سورية؟

وفقاً لقراءة مؤشرات خريطة الطريق نحو الاقتصاد القائم على المعرفة وفقاً للدراسة التي قامت بها الجامعة الافتراضية منذ عامين، نجد جملة من التحديات التي يوجهها الباحث السوري في المؤسسات البحثية على اختلافها؟ فقد كشف الدكتور خليل عجمي رئيس الجامعة الافتراضية عن عبارات مفتاحية في بيئة البحث العلمي الحالية منها: (شركات ومؤسسات معرفية، شركات تجارية معنية بتسويق الابتكارات، حاضنات ناشئة، التدريب على التكنولوجيا، تدريب على الرياضيات، التشبيك بين المؤسسات ذات الصلة سواء بين واضعي السياسات وبين منفذيها وبين الصناعات القائمة على المعرفة والصناعات التي تستثمر هذه المعرفة). وأوضح أن هذه العبارات موجودة في البيئة البحثية العالمية، لكننا نفتقدها في مؤسساتنا البحثية المحلية التي لا زالت تعاني العديد من التحديات، أولها يتعلق بآليات الحماية الفكرية التي تعتبر عاملاً رئيسياً في أي عمل علمي أو بحثي. وثانياً: هناك نقص بالتشريعات المتعلقة بتحويل وتحديث مسرعات العمل وصناديق الاستثمار.

أما التحدي الثالث، فهو موضوع التمويل الذي يعتبر عصب البحث العلمي. ففي كل أنحاء العالم نجد أن الدول لا تمول إلا جزءاً يسيراً من البحث العلمي، لأن التمويل يقع على عاتق صناديق استثمارية وصناديق خاصة بالتمويل؛ حيث يتوجه القطاع المصرفي للاستثمار في أبحاث يمكن أن تعود عليه بالفائدة والربح. وهذا أمر غير موجود في سورية، إضافة إلى أن التشريعات الحالية ينقصها الكثير من التحديث والتطوير، والآليات التشاركية بين جامعات القطاع الخاص والقطاع العام ضعيفة بالعموم وغير مرنة، وهناك حاجة كبيرة للتنسيق بين راسمي السياسات ومنفذيها. فقد أثبتت الدراسة: أن راسمي السياسات، وهم الهيئة العليا للبحث العلمي ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي وهيئة تخطيط الدولة، في واد، والمؤسسات التي تقوم بالبحث العلمي في واد آخر.

الدكتور خليل عجمي

الأذرع البحثية

يبين العجمي: أنه لدينا مؤسسات ومراكز بحثية عديدة مثل مديرية البحث العلمي في وزارة التعليم العالي وهيئة البحث العلمي والكثير من الجهات البحثية الأخرى، إلا أنها جميعها تعاني من غياب للأذرع التنفيذية لسياساتها العلمية. فالهيئة العليا للبحث العلمي ليس لها أزرع تنفيذية ضمن المراكز البحثية، وبالتالي هي تكتفي برسم السياسات التي تراها مناسبة، ما يستدعي النظر إلى الأمور من باب المصالح المشتركة بين هذه الجهات للتعاون فيما بينها عبر قرارات واضحة.

كما أن العلاقات التي تميز أي تطوير للبحث العلمي مثل صناديق تمويل الابتكار، صناديق تمويل البحث العلمي، الحاضنات، الشركات الناشئة، ومسرعات الأعمال وغيرها من العناصر البنيوية لتطوير البحث العلمي، لا يوجد منها الكثير في سورية، ما يشير إلى أننا ما زلنا بعيدين عن البيئة البحثية الرقمية.

وعليه يأتي السؤال: هل يمكن تطوير هذه البيئة وتحقيق تشاركيه علمية تفاعلية ومفيدة، دون تحول رقمي في منظومة التعليم العالي والبحث العلمي؟ إن الوصول إلى إجابة تقريبية حول ذلك من خلال النظر إلى بعض المؤشرات الفرعية المعرفية العالمية لعام 2020 لدول متوسطة وليست متقدمة كثيراً، نجد أن هناك علاقة واضحة تبين أنه كلما تحسنت مؤشرات تطور البيئة التكنولوجية تتحسن مؤشرات تطور البيئة الاقتصادية والبحثية والابتكار. وعليه يمكن القول إن التحول الرقمي شرط لازم وقوة دافعة باتجاه التغيير والتطوير لتحقيق وتعميق هذه البيئة. فهناك دول كثيرة مثل ماليزيا والهند وإيران وسنغافورة وباكستان وفيتنام، وهي دول متوسطة أثبتت أن التحول الرقمي هو قوة دافعة في أي تطوير للبيئة البحثية.

وأشار رئيس الجامعة الافتراضية إلى أن الحديث عن التحول الرقمي، يعني أننا نتحدث عن بيئة اقتصادية تولد قيمة إضافية معرفية ومالية وتكون مرتبطة ببعضها البعض .وهذا ما ندعوه بالتحول الرقمي اليوم. وهو ما تحتاجه المؤسسات العلمية السورية للتشبيك فيما بينها، في ظل وجود فهم خاطئ للتحول الرقمي وقرارات سريعة تذهب نحو الأتمتة والرقمنة تحمل بذور فشلها.

خدمات رقمية

إن ما يقال عن أن التحول الرقمي يحتاج لإمكانيات مادية كبيرة، هو أمر غير دقيق، لأنه في النهاية هو علم قادر على تمويل نفسه بنفسه. قد يكون هناك عائق يتعلق بالإمكانات المالية البحثية، ولكن عندما نبدأ بالبحث العلمي الرقمي سنجد أن هناك الكثير من المال الذي سيتولد عن الخدمات التي تتحول إلى خدمات رقمية، وبالتالي يمكن لأي عملية تطوير أن تطور نفسها بنفسها. هذا ما تحدث عنه الدكتور العجمي، وأضاف أن هناك العديد من التحديات التي تواجه بيئتنا البحثية السورية، فالكل يعلم اليوم الكم الهائل من المعلومات الذي يتراكم ولا نستطيع الوصول إليه بهذه البساطة، فهناك ضعف بالبنى التكنولوجية والأدوات المساعدة يمنعنا من الوصول إلى هذه المعارف ومن استرجاعها وحتى تلخيصها، كما أنه كل الصناعات اليوم مبنية على المعرفة وأي إنتاج خارج هذه القاعدة سيكون إنتاجاً خاسراً. ولهذا نجد أن الاستيراد سيكون أرخص بكثير طالما أننا لا ننتج إنتاجاً مبنياً على المعرفة. وهذا ما نلاحظه كثيراً، حيث نجد أن تصنيع منتج ما تكلفته أعلى بعشرات المرات من استيراده، لأن منتجنا يبنى على آليات قديمة وسط تحولنا إلى مجتمعات مستهلكة للمعرفة وليست منتجة لها.

بنية تكنولوجية

يبدو أنه لا يمكن تحقيق بيئة بحثية عصرية دون تحقيق التشبيك الرابح والتحول الرقمي، وقد يكون ذلك صعباً دون وجود استراتيجية واضحة. يوضح الدكتور خليل العجمي: إن المبادرات الفردية ممتازة لكنها غير مجدية إذا لم تكن ضمن رؤية واضحة للتحول الرقمي، تتضمن عدة مستويات أهمها المستوى التشريعي الذي يبدأ من آليات نشر الكتاب الرقمي وحلول الملكية الفكرية. فعلى سبيل المثال أستاذ الجامعة اليوم ليس له مصلحة في نشر كتاب رقمي ومحتوى رقمي في ظل وجود مشكلة تشريعية ومشكلة بالتعويضات وبالأرباح التي يمكن أن يحققها.

وهناك المستوى التكنولوجي؛ إذ إننا نحتاج إلى بنية تحتية تكنولوجية تساعد في الاستيعاض عن البنى اللوجستية التي نقوم بها. وبالطبع ليس المقصود الاستعاضة عن مشفى بمشفى افتراضي، ولكن يمكن الاستعاضة عن قاعة صفية ببنى إلكترونية مساعدة، مشيراً إلى مشكلة التشبيك الداخلي والخارجي والعزلة عن الأصدقاء، لأننا لا نمتلك شبكات رقمية للتعليم والبحث العلمي تعني بالوصول إلى موارد إلكترونية مرتبطة بشبكات عربية وعالمية تمكننا من التواصل مع العالم الخارجي وفيما بيننا. وعليه فالمؤشرات الحالية تشير إلى أننا لم نستطع مواكبة البيئات البحثية المتقدمة حتى الآن، وأنه علينا تغيير طريقة تفكيرنا لأننا موجودون في عالم رقمي ويجب أن نفكر في استراتيجيات ضمن هذا العالم كوسيلة وحيدة لكي نصل إلى بيئة البحث والابتكار في سورية.