يعد "ليبنتز" من رواد الفكر الأوروبي الحديث في القرن السابع عشر، ولا يقل أهمية عن "ديكارت واسبينوزا ومالبرانش وجون لوك وهوبز" وغيرهم ممن حاولوا رفع لواء التجديد والابتكار في مجال الفلسفة والعلم والدين. وقد امتاز بنشاطه واهتمامه بكل ما يسود عصره من مشاكل، فكان فيلسوفاً وعالماً وفقيهاً وسياسياً.

وجد غوتفريد فيلهلم ليبنتز عند الفلاسفة المدرسيين "تبراً مخبوءاً يأنف المحدثون أن ينقبوا عنه". قصد جامعة "يينا" ودرس الرياضيات على يد رياضيّ فيلسوف وهو "إيرهارد فيجل"، وفي جامعة "أندورف" درس القانون وحصل على الدكتوراه، ثم اتجه إلى "نورمبرغ" حيث انضم إلى جمعية "روزنكرتيز" وكانت معنية بالعلوم الخفية. قرأ كتب الكيميائيين، وعُيّن كاتباً للجمعية، وظل طيلة حياته شغوفاً بتجارب الكيمياء. كما عينه أمير "ميانس" سنة 1670 مستشاراً في المجلس الأعلى، فاشتغل بمشروعات لإصلاح العلم القانوني ومجموعات القوانين، وبالفلسفة والعلم الطبيعي. وفي لندن تعرف إلى الرياضي "كولنز" صديق "نيوتن". أما في أمستردام فقد لقي "اسبينوزا" ودارت بينهما أحاديث فلسفية. وفي كانون الأول 1676 انتهى إلى "هانوفر" فأقام بها متصلاً بجميع الأحداث الأوروبية الكبرى، مؤلفاً في تاريخ "ألمانيا" وفي الفلسفة[1].

اهتم بالمنهج الرياضي، وحاول تطبيقه على كل الدراسات، حيث نشر بحثه فن الارتباط الذي كان بمثابة الأساس الأول لما تعرض له من دراسات في العلم الكلي. أما اهتمامه بالمنهج الفلسفي، فلم يظهر إلا عندما نشر رسالته عن "أسلوب فيزوليو الفلسفي"، ومن خلالها حاول أن يوضح خصائص الأسلوب الفلسفي الثلاث وهي الوضوح والصحة واللياقة. كما أكد برتراند رسل أن فلسفة "ليبنتز" الحقيقية التي تعتمد على المنطق، اتخذت أساساً لها مبدأي التناقض والعلة الكافية، وصاغت نظريته في قضية أساسية تقرر أن مضمون القضية الصادقة يتضمن محمولاتها، ومن ثم يمكن إثبات كل الحقائق قبلياً عن طريق التحليل وتصبح الحقائق كلها تحليلية. وقد حاول "ليبنتز" تطبيق منهج التحليل على نظريته في الجوهر وفي الوحدات العنصرية (الموناد) وفي مجالات الأخلاق والدين[2].

موقفه من ديكارت ولوك واسبينوزا

لقد اتخذ "ليبنتز" موقفاً واضحاً من فلسفة ديكارت من جهة، وفلسفة الديكارتيين من جهة أخرى، سواء في مجال العلوم الطبيعية أو ما بعد الطبيعة أو اللاهوت، وقد استطاع أن يتجاوز فكر عصره ويضيف إليه.

وقد سادت في القرن /17/ نظرية الصور الجوهرية، وأدت إلى نوع من اللامعقولية، فكان من الطبيعي أن ينهض "ديكارت وجاسندي ومالبرانش" وغيرهم لنقد هذه النظرية، وانتهى "ديكارت" إلى وجود جوهرين فقط هما جوهر الفكر وجوهر الامتداد. لكن "ليبنتز" في نقده لنظرية "ديكارت" هذه، أكد أن طبيعة الجسم لا تتكون من الامتداد وحده، بل يجب التعرف على صلته بالروح، وهذا ما يقصده بالصورة الجوهرية. وكذلك كان من الطبيعي أن يُثار النزاع بينه وبين الديكارتيين الرافضين للصور الجوهرية، ومن ثم حرص على أن يوضح ما يقصده بالصورة الجوهرية، وأن يدافع عن نظريته، وانتهى إلى أنه من الأفضل أن يُطلق عليها اسماً جديداً يميزها عن المفهوم القديم للجوهر، ويتحاشى ما تعرض له من نقد، فسماها أولاً بالنقطة ما بعد الطبيعة، ثم أطلق عليها لفظ الوحدة العنصرية (موناد).

وقد امتد الخلاف بينه وبين الديكارتيين كذلك ليدور حول فكرتي الامتداد والمادة وما يترتب عليها من نتائج، فقد رفض "ليبنتز" الامتداد الديكارتي واعتبار المقاومة ماهية للمادة الأولى، وأصبح الامتداد مجرد صفة للشيء الممتد، وبالتالي لا بدّ من تعديل أساسي لتصور الحركة والزمان والمكان، فالمادة التي ماهيتها المقاومة بحاجة لقوة تفسر حركتها ما دامت الحركة تفترض وجود قوة تدفعها دائماً للانتقال من حركة بالقوة إلى حركة فعلية. ويقرر "ليبنتز" أن هذا الميل الداخلي أو القوة هو الوحيد الثابت، ويمكن قياسه بقياس ما يترتب عليه من نتائج. وبعد أن كاد "ديكارت" يعتبر كمية الحركة نتيجة لقوة تعمل في زمن محدد، أعلن "ليبنتز" أن القوة الحية تعمل خلال مسافة ثابتة، وقد أهمل "ديكارت" المسافة التي تقطعها القوة، وبالتالي عدل "ليبنتز" مفهوم المكان والزمان ورفض اعتبارهما حقيقتين مطلقتين، بل اعتبرهما نوعاً من التتابع، فالمكان يدل على تتابع الأشياء، والزمان يدل على تزامنها.

وهناك نقطة أخرى اختلف فيها عن "ديكارت" تتعلق بصلة الروح بالجسد، فهي برأي "ليبنتز" علاقة تواصل، فالجسم برأيه نوع من الصورة تعبر ديناميكياً أو طبيعياً عن الروح، والجسم هو أطلس يعرض مظاهر الروح الجغرافية والبشرية والطبيعية، وإذا كانت الروح فكرة فإن الجسد هو الكتاب الذي يعرض الفكرة[3].

كان "ليبنتز" يقدر ويحترم "اسبينوزا" العالم والطبيب، لكنه عارض وهاجم "اسبينوزا" السياسي واللاهوتي والملحد الذي زعزع الثقة بالعقيدة باسم حرية التفلسف، و"ليبنتز" في معارضته له يدافع عن الدين المسيحي.

وفي الحقيقة إن معرفة "ليبنتز" بفلسفة "اسبينوزا" لم تكن كافية، ولم تساعده في التعرف الحقيقي لفكره، خاصةً أن مصادره لا تتعدى ما أثير حول "الرسالة اللاهوتية السياسية"، ومن ثم لم تسمح له أن يتأمل فلسفة "اسبينوزا" بذهن متحرر. لقد كانت نظرة "ليبنتز" إلى "اسبينوزا" مزدوجة، فهو من جانب عدو الدين والأخلاق ونظام الدولة والرجل المتمرد على الإيمان والقانون، ومن جانب آخر رأى فيه العالم والطبيب الجدير بالثناء والتقدير.

أما مواقف "لوك" من تحديد مفهومه للمعرفة هي التي دفعت "ليبنتز" إلى الاهتمام أولاً بدراسة هذه النظرية، ثم تأليف كتابه "أبحاث جديدة في الفهم الإنساني" ليرد بالتفصيل على مواقف "لوك"، وليحدد موقفه الخاص، وبهذا فقد حقق خطوة أساسية في تطوير الفكر الألماني الحديث، ونقل إليه فلسفة التنوير الإنكليزية التي كان "لوك" رائدها.

وإذا كان "لوك" وغيره من فلاسفة الإنكليز قد هاجموا ما بعد الطبيعة باعتبارها فكراً خالصاً، فإن "ليبنتز" قد دافع عن ما بعد الطبيعة بل أراد أيضاً إصلاحها وبناءها على أسس العلم الحديث. كذلك تعرض "ليبنتز" إلى فكرة اللانهائي، ويتفق مع "لوك" في أنه لا يمكن القول بدقة إنه لا يوجد مكان ولا زمان ولا عدد نهائي، إنما الحق هو أياً كان الزمان أو المكان أو العدد كبيراً، فهناك دائماً أكبر منه إلى ما لا نهاية، وعلى هذا لن يوجد اللانهائي المطلق الذي لا أجزاء له، والذي يؤثر في الأشياء المركبة لأنها تنتج من تحديدات المطلق. كما اتفق مع "لوك" في أننا نعرف وجودنا بالحدس، ونعرف وجود الله بالاستدلال، وأن المادة خالية من الإدراك ولا يمكن أن تكون قادرة على التفكير.

والمعرفة عند "ليبنتز" فطرية ومكتسبة معاً، فهي فطرية بمعنى أن الذهن لديه القدرة على معرفتها، ومكتسبة أي تتأثر بما تثيره إدراكاتها للعالم الخارجي وما تمدها به تجاربها من مادة خام تتيح الفرصة لنقل ما لديها من أفكار موجودة بالقوة إلى الوجود بالعقل، وبالتالي يتخذ موقفاً مخالفاً للنظريتين السائدتين في عصره وهما، النظرية الديكارتية التي رأت أن المعرفة فطرية، ونظرية "لوك" التي اعتبرتها مكتسبة.

أيضاً المعرفة عنده لا يمكن أن تكون حدسية كلها، لأننا لا نستطيع مقارنة الأشياء مباشرة باستمرار، ولن تكون استدلالية دائماً لأننا لا نستطيع الوصول دائماً إلى الأفكار المتوسطة، وكذلك لن تكون حسية دائماً لأن معرفتنا الحسية تنحصر في معرفة الأشياء التي تؤثر في اللحظة الراهنة على حواسنا، وفي الواقع فإن معرفتنا برأيه تجمع بين الحدس والاستدلال والحس{4].

المونادولوجيا

استطاع "ليبنتز" قبل موته بسنتين أن يضع رسالتين صغيرتين، لخص فيهما فلسفته وصاغها في عبارات دقيقة محكمة، وكانت أولاهما (المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي)، أما الثانية فقد تركها بغير عنوان، ثم عُرفت بعد ذلك باسم "المونادولوجيا" حيث أصبحت أشهر أعماله وأكثرها دلالة على مذهبه.

جعل "ليبنتز" من فكرة الجوهر محور فلسفته، وجمع فيها بين عناصر قديمة من التراث الفلسفي إلى جانب أفكاره الخاصة، حيث انتهى إلى تصور أصيل وجديد، واختار لها اصطلاحاً جديداً هو "المونادا"، ولم يستخدمه إلا منذ سنة 1697. و"المونادا" ليست فكرة رياضية، لأن "ليبنتز" يعترض على وصف المونادات بأنها نقط رياضية، فالحقائق الرياضية برأيه تفتقر إلى كل الخصائص الدينامية، إنها أفكار وليست قوى أو طاقات، والمونادات في حقيقتها مراكز حية للقوة أو الطاقة، وقد عبر عن هذه الفكرة في تعريفه المشهور للجوهر بأنه كائن قادر على الفعل.

وفي كل كائن حي توجد مونادا رئيسية تتحكم في سائر المونادات التي يتألف منها، ويطلق عليها اسماً استعاره من المصطلح الأرسطي وهو "الأنتيليخيا"، فالمونادات أنتيليخيات ولكل نبات أنتيليخياه، والأنتيليخيا الموجودة في الحيوان تسمى النفس، أما الموجودة في الإنسان تدعى العقل.

وفلسفة "ليبنتز" عن المونادات تحتفظ بالفكرة القديمة عن تسلسل الكون، فمونادات الأجسام تحتل أدنى طبقة، تعلوها المونادات التي تتحكم في النباتات، ثم تأتي مونادات الحيوانات التي ترتفع فوقها، إلى أن نبلغ المونادات التي تتحكم في الكائنات البشرية وتتجاوز سائر الطبقات، ثم نجد أرواحاً أسمى من الأرواح البشرية تتوسط بين الإنسان والله، وأخيراً نجد المونادا المركزية المطلقة الكاملة التي تعلو فوق سلسلة المونادات الفانية.

وإذا أردنا أن نطلق كلمة نفس على كل ما لديه إدراكات فمن الممكن عندئذٍ تسمية جميع الجواهر البسيطة أو المونادات المخلوقة نفوساً، ولكن لما كان الإحساس شيئاً يزيد على الإدراك البسيط، فقد يكفي أن نطلق على الجواهر البسيطة التي لا تحتوي على شيء آخر سواه اسم المونادات أو الأنتيليخيات. أما تسمية النفس فيصح أن نقصرها على المونادات التي يكون الإدراك فيها أكثر تميزاً، كما يكون مصحوباً بالتذكر، وفي الحالات التي لا نتذكر معها أي شيء ولا يكون لدينا أثناءها إدراك كتميز (كالإغماء أو النوم دون أحلام)، ففي هذه الحالة لا تختلف النفس اختلافاً محسوساً عن المونادة البسيطة، ولا يترتب على هذا أن الجوهر البسيط يخلو عندئذٍ من كل إدراك، وهذا أمر غير ممكن، لأنه لا يمكن أن يبقى بغير تأثير من نوع ما وليس هذا التأثير سوى إدراكه.

ولما كان الإنسان يفطن إلى إدراكه بمجرد أن يفيق من الإغماء، فلا بد أن مثل هذا الإدراك قد وجد لديه قبل ذلك مباشرة وإن لم يكن حينئذٍ على وعي به، لأن الإدراك لا يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية إلا عن إدراك آخر. إذاً سنكون دائماً في حالة الإغماء إذا خلت إدراكاتنا من التميز والتطلع إلى مرتبة أسمى، والواقع أن هذه هي حالة المونادات المتناهية في البساطة[5].

----

المراجع:

[1] تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، كلمات عربية للترجمة والنشر، ص 129- 130.

[2] ليبنتز أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، أحمد فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص 3- 15- 69- 70.

[3] المرجع السابق، ص 29- 30- 31- 32- 34.

[4] المرجع السابق، ص 44- 45- 48- 57- 60- 61- 62- 63- 64.

[5] المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي، جوتفريد فيلهلم ليبنتز، دار الثقافة للطباعة والنشر، ص 23- 26- 28- 29- 136- 137- 138- 139.