يتطلب فهم الأفلام انتباهاً شديداً لعوامل رئيسية، هي جهة صناعة الفيلم وبنائه (المحتوى، الشكل، الأسلوب) ورد فعل الجمهور، والسينما صناعة وفن واختراع تقني ومؤسسة اجتماعية، وهذه الجوانب متضافرة في تاريخ صناعة السينما.

لا تزال صناعة الأفلام تجارة ضخمة، هذا ما أدركه توماس إديسون عندما سجل براءة اختراع أول آلة "كينيتوسكوب"، حيث كان يهدف إلى تحقيق دخل كبير، وبعد وقت قصير اكتشف الأخوان لوي وأوغست لوميير أن الأكثر إدراراً للمال هو عرض الفيلم على شاشة كبيرة لجمهور حاشد. وقد افتتح الأخوان الفرنسيان أول دار عرض سينمائي في باريس 1895، وكان اختراعهما السينماتوغراف كاميرا تصوير وعرض بآن واحد، لكنهما في العام 1902 باعا براءات الاختراع المسجلة إلى شركة "باتيه" الفرنسية التي طورت التقنية، وأقامت استديوهات إنتاج، وافتتحت سلسلة من دور العرض امتدت إلى روسيا وأستراليا واليابان.

لم يخشَ أديسون الأميركي اختراع منافسيه الفرنسيين، فأنتج مئات الأفلام القصيرة، وصنع كاميرا جديدة للتصوير الخارجي، حينئذٍ كانت صناعة الأفلام مجالاً فوضوياً، لذلك في العام 1907 ساعد إديسون في تنظيمها، وأسس شركة براءات اختراع الأفلام السينمائية التي عرفت باسم "تحالف إديسون". وبالنسبة إلى قلة منتقاة من المنتجين، غيرت الشركة طبيعة الجانب التجاري للسينما محدثةً سوابق أثرت على الصناعة لعقود، وربما لا يكون إديسون هو من اخترع السينما، لكنه ترك بصمته عليها كأول رجل أعمال سينمائي كبير.

كان الأميركيون الجدد مشغولين بإنشاء هوليوود، التي وصفها الصحفي والناقد الأميركي نيل جابلر "إمبراطورية مستقلة بحد ذاتها". وبين عامي 1912 و1928 ثبتت أقدامها استديوهات الإنتاج الكبرى باراماونت ومترو غولدن ماير ووارنر براذر وتوينتيث سنتشري فوكس وآركيه أو، تبعهتا ثلاث أصغر منها هي كولومبيا بيكتشرز ويونيفيرسال ويونايتد آرتيستس. ولقد سعى واضعو استراتيجيات العمل بالاستديوهات إلى تقليل المخاطرة التي يتعرض لها المستهلك بتقديم مكونات مألوفة. أما نظام النجم فقد ضمن النجاح في شباك التذاكر باستغلال شهرة الممثلين. وبنمو الاستديوهات فقد شاركت في التوزيع والعروض حاصدة الأرباح الاقتصادية.

وبعد الحرب العالمية الثانية أخذ التلفزيون يحل محل السينما كوسيط مفضل للترفيه، لكن إمبراطورية هوليوود واجهت هذا بتقديم سلسلة من الوسائل الجديدة لمشاهدة الأفلام، لكن تكاليف صناعة الفيلم وعوائد شباك التذاكر الآخذة بالتناقص كان لها أثرها الكبير. وبحلول عام 1950 انخفض عدد جمهور السينما. لكن في سبعينيات القرن العشرين نجح مجموعة من المخرجين ذوي التفكير المستقل والأسلوب الإبداعي الخاص في اجتذاب جمهور أكثر شباباً، ما غرس بذور صحوة هوليوود من جديد.

إن صناعة الأفلام خاصة الكبرى ذات ميزانيات الإنتاج الضخمة، عملية باهظة التكلفة، فقد أخذت تكلفة إنتاج الفيلم المتوسط في هوليوود تزداد بانتظام من 11 مليون دولار في أوائل الثمانينات إلى 50 مليون دولار في التسعينيات، ثم 64 مليون دولار في عام 2005، وهذا الرقم يمثل فقط صافي تكلفة الإنتاج، وبوجود مثل هذه التكاليف، فإن التمويل غالباً ما يكون التحدي الأكبر أمام أي صانع أفلام.

ولقد كانت أهم استراتيجيات التمويل في الاقتصاد العالمي هي الإنتاجات المشتركة، كما تشكل مهرجانات الأفلام عاملاً هاماً في اقتصاديات السينما العالمية، وبحلول عام 2012 حصر موقع filmfestivals.com عدد المهرجانات في العالم حيث وصل إلى أكثر من 4000 مهرجان، جميعها توفر ما يشبه مركز التسوق المتحرك لموزعي الأفلام، وأماكن مناسبة لعقد الصفقات الدولية. أيضاً هناك جانب آخر للاقتصاديات العالمية للسينما وهو الإنتاج الخارجي كونه أوفر من حيث التكلفة. ولا يعرف أحد على وجه التحديد عدد الأفلام التي تنتج كل عام، فطبقاً للتقديرات هناك أكثر من 100 دولة تشارك في إنتاج ما يصل سنوياً إلى 4000 فيلم في المتوسط، تنتج آسيا نحو نصفها، وأوروبا الثلث، وتشترك أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط في إنتاج 10 بالمئة، أما الولايات المتحدة فتنتج 6 بالمئة فقط من الإنتاج العالمي.

ومن الناحية التقنية فلا يمكن تصنيع الأفلام دون التكنولوجيا، وبينما تستمر التقنيات السينمائية في التطور مع الوقت، إلا أن العملية الرئيسية لصناعة أي فيلم لا تزال تقسم على عدة مراحل أولها التطوير، وفيها تُفصل فكرة الفيلم بما يكفي من التفصيل لإقناع شخص ما بتمويله، ثم السيناريو الذي يعرض الأفكار ويضيف الحوار، ثم مرحلة ما قبل الإنتاج، وفيها تنتقل الفكرة المكتوبة على هيئة سيناريو من الموافقة إلى الإنتاج، ويعتبر البعض هذه المرحلة الأكثر تشويقاً في صناعة أي فيلم، ثم تأتي مرحلة الإنتاج.

وقد غيرت الثورة الرقمية عملية صناعة الأفلام بالكامل من البداية حتى النهاية ومن أعلى لأسفل، وأصبحت أجهزة الكمبيوتر تستخدم في كتابة النص السينمائي والتصوير والمونتاج بل والإنتاج والتوزيع وعرض الأفلام، كذلك غيرت التطورات التي حدثت في الصور المنشأة بالكمبيوتر وجه صناعة أفلام الرسوم المتحركة، وسمحت لشخصيات رقمية التعامل مع ممثلين حقيقيين، وساعدت الثورة الرقمية أيضاً في الدفع نحو اقتصاد عالمي بشكل متزايد.

السينما الصينية

قبل اندلاع الحرب الأهلية في الصين كانت معظم الأفلام تأتي من الخارج، وفي أول نصف قرن من عمر السينما كانت الأفلام الأجنبية تُشكل نحو 90 بالمئة من السوق الصينية، ومع ذلك فإن المواهب المحلية ساعدت في إطلاق العصر الذهبي للسينما الصينية في ثلاثينيات القرن الماضي. وعندما أسس "ماو تسي تونغ" جمهورية الصين الشعبية، كان ينظر إلى السينما كأداة قوية لتوحيد البلاد، فدُمجت استديوهات الأفلام الخاصة تحت سلطة الدولة، وأفسحت الأنواع الفنية الترفيهية التقليدية الطرق للأفلام السياسية، وسُميت الموهبة والطاقة الاستثنائيتان اللتان أعادتا إحياء السينما الصينية في الثمانينيات بحركة الجيل الخامس تيمناً بأوائل الطلاب الذين تخرجوا في أكاديمية السينما بعد إعادة افتتاحها.

وفي خضم النزعة الاستهلاكية والثقافة الشعبية وما بعد الحداثة فيما بعد الحقبة الجديدة، ظهر جيل من صناع الأفلام المستقلين الذين كانوا جميعاً في أواسط وأواخر العشرينيات من عمرهم في عام 1989. أما الجيل السادس من المخرجين، فقد صنع أفلاماً طليعية جديدة بميزانيات صغيرة، وعلى الرغم من منع عرضها في الصين إلا أنها انتشرت على نطاق واسع في المهرجانات وعبر الإنترنت وشرائط الفيديو والأقراص الرقمية، وإن براعة صناع الأفلام الشباب الطموحين في استخدام التقنيات الجديدة في إنتاج وتوزيع أفلامهم هي التي مكنتهم من الالتفاف على النظام، وإتاحة بدائل خلاقة للأفلام المكلفة أو الممنوعة رسمياً.

وبينما كانت السينما تمر بهذه المراحل في بر الصين الرئيسي، كانت هناك تطورات موازية في هونغ كونغ وتايوان، حيث كانت هونغ كونغ تفتخر بأيام مجدها بامتلاكها ثالث أكبر صناعة سينما في العالم بعد الولايات المتحدة والهند، كما برزت جزيرة تايوان بعد عقود من العزلة والوقوع تحت سلطة اليابان لتصبح قوة مالية وإبداعية في السينما باللغة الصينية. ومع حلول عام 1993 كان حوالي ربع الأفلام المصنوعة في جمهورية الصين الشعبية تحصل على تمويل أجنبي، واكتشفت الحكومة ان التخلص من القيود يمكنه زيادة العوائد. وفي عام 1994 بدأت تنفيذ سياسة استيراد عشرة أفلام ضخمة كل عام مع مشاركة المنتجين إيرادات شباك التذاكر، وتضمنت أفلاماً هوليوودية كبرى وأفلام كونغ فو. وقد هاجر بعض من أشهر صناع الأفلام في الصين مثل آنج لي وجون وو، كما نشأ مخرجون آخرون مثل واين وانغ خارج الصين، هؤلاء جميعاً أضافوا أبعاداً جديدة إلى موضوع الهوية الصينية في عصر العولمة.

السينما اليابانية

بعد دخول كاميرا السينما إلى اليابان عام 1897، تبنت اليابان هذه التكنولوجيا الجديدة بسرعة، وعُرض أول فيلم ياباني في طوكيو في مسرح كوباكي، كما تبنت نظام استديوهات هوليوود وأسست عدة شركات إنتاج مستقلة كبرى بين عامي 1912 و1936، لكل منها أسلوبها الخاص والأنواع السينمائية المميزة لها. ولقد كان عقد الثلاثينيات عقداً ذهبياً لمخرجين كلاسيكيين مثل ياسوجيرو أوزو وكينجي ميزوجوشي. وخلال الحرب العالمية الثانية أسست الحكومة الاستديو الخاص بها وصنعت أفلاماً تروج لأفكار قومية منذ 1942 حتى 1971، وبعد هزيمة اليابان مُنع تقديم أي أفكار تروج للروح العسكرية أو تستحسن الولاء للإقطاعية أو تستخف بالحياة. أما فترة الخمسينيات فقد مثلت فترة ذهبية أخرى عندما عادت استديوهات السينما إلى تقديم الأنواع السينمائية الوطنية، وعاد الجمهور إلى دور العرض المحلية. لكن في فترة الستينيات والسبعينيات واجهت السينما اليابانية تحديات فرضها التلفزيون، وكما في هوليوود فقد ظهرت في اليابان موجة ضمت صناع أفلام من الشباب الجريء تضم مساعدي مخرجين جربوا تقديم العنف الصريح. لكن الخطوة التي كان لها أكبر الأثر في جذب الجمهور الدولي كانت أفلام الرسوم المتحركة المعروفة عالمياً باسم الإنيمي. وهي أفلام تنبثق من تراث بصري قوي، وقد أصبح قوة عالمية بحق في الستينيات من خلال مسلسل أستروبوي، وهو أول مسلسل ياباني للرسوم المتحركة. وعلى الرغم من أن الحركة فيه كانت غير متقنة نسبياً، إلا أنه قدم العديد من العناصر البصرية والأفكار لأعمال لاحقة. ومع بداية الألفية الثالثة كانت السينما اليابانية تستهدف أهدافاً عالمية جديدة في هيئة أفلام الرعب، وقد ارتبطت بالتقنيات الجديدة التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

سينما أميركا اللاتينية

وصلت الحداثة والأفلام إلى أميركا اللاتينية في نفس الوقت تقريباً، وعندما وصل وكلاء إيدسون والأخوان لوميير إلى ريو دي جانيرو أو بوينس آيرس أو مكسيكو سيتي أو منتيفيديو أو سانتياغو، قدموا السينما كإحدى العجائب التكنولوجية للعالم الحديث، أبرزت أفلامهم البدع الجديدة وجوانب الإثارة التي تميز المدينة الكبيرة باريس، مقدمة موضوعات عن واردات ذلك الوقت والحركة والتنقل، وقد اصطحب صناع السينما في أميركا اللاتينية كاميراتهم إلى الطريق أو خطوط السكك الحديدية وآلات العرض، مسافرين من بلدة إلى بلدة مع سينماهم المتحركة.

وفي بعض مناطق أميركا اللاتينية أراد سكانها صنع أفلام عن موضوعات محلية لجمهور محلي بمواهب محلية، أرادوا صنع سينما وطنية، ففي المكسيك مثلاً أصبحت الثورة المكسيكية موضوعاً مفضلاً بين عامي 1910 و1918، وبين عامي 1917 و1921 أنتجت المكسيك حوالي 75 فيلماً روائياً طويلاً، وهو رقم قياسي بالنسبة إلى حقبة السينما الصامتة.

لكن الانتقال من السينما الصامتة إلى الصوت المتزامن شكّل انتكاسة لصناعة السينما الناشئة في أميركا اللاتينية، حيث كانت تقنية الصوت الجديدة كبيرة الحجم وباهظة الثمن، لذا كان من الأسهل والأقل تكلفة استيراد الأفلام من هوليوود. وفي فترة اندلاع الحرب العالمية الثانية توجهت هوليوود جنوباً فتدفقت الأيقونات الثقافية في الاتجاهين. وعلى الرغم من سيطرة هوليوود على السوق المحلية، إلا أن صناع السينما في أميركا اللاتينية كانوا يجربون أنواعاً سينمائية مميزة خاصة بهم، هذه الأنواع وأنواع أخرى محلية أطلقت عصر السينما اللاتينية الذهبي ومهدت الطريق لتقديم قصص سينمائية محلية.

في التسعينيات بدأت بعض الدول إعادة بناء بنى تحتية أكثر مرونة، ففي عام 1995 أسست الأرجنتين المعهد الوطني للسينما والفنون السمعية البصرية، وهو وكالة حكومية تسن تشريعات لصالح السينما. وقامت المكسيك بمبادرة مماثلة من خلال المعهد المكسيكي للسينما. وفي كولومبيا سعى قانون السينما الجديد لدعم هذه الصناعة بإبطال مركزية الإنتاج، وبدأت المكانة الدولية لكولومبيا في البروز من خلال الحصول على جوائز في المهرجانات. وفي الأرجنتين أعيد إحياء مهرجان مار ديل بلاتا السينمائي 1996، وعملت دول مثل البرازيل والأرجنتين وغيرهما معاً من خلال الميركوسور أو السوق الجنوبية المشتركة لتسهيل الإنتاج والتوزيع والعرض العابر للحدود القومية. وإحدى النتائج الكبرى لهذا كان حدوث زيادة كبيرة في النشاط السينمائي، وبدأ النقاد يتحدثون عن عودة برازيلية وموجة أرجنتينية ونهضة سينمائية لاتينية جديدة.

----

الكتاب: السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية

الكاتب: وليم في كوستانزو

ترجمة: زياد إبراهيم

الناشر: مؤسسة هنداوي للطباعة والنشر، 2019