وضعت مئات الكتب والدراسات عن كلود ليفي شتراوس وعن منهجه البنيوي التحليلي وعن دراساته في الأسطورة والأنثروبولوجيا. وكان شتراوس عميقاً في بحوثه، وجاداً في البحث عما يخفيه التاريخ، ليسخره في خدمة الإنسان الحديث.

كلود ليفي شتراوس هو أحد رواد البنيوية، وباحث في ميادين الفكر البري والطوطمية وأنظمة التواصل والتاريخ والموسيقا والأدب. وفي هذا الكتاب "من قريب ومن بعيد" يتحدث شتراوس بنفسه عن دراساته وأعماله في حوار أجراه معه ديدييه إريبون، ويسهب في آرائه وأفكاره التي تبرزه علماً بنيوياً ومفكراً فريداً.

ولد كلود ليفي شتراوس في بروكسل عام 1908 لأب باريس. قضى طفولته في باريس، وكان والده رساماً، وهذا ما جعله يعيش في وسط فني وبيئة غنية فكرياً، رغم المصاعب المالية.

درس الفلسفة وقرأ ماركس وأعجب به، ثم انضم إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي. درس الحقوق في باريس، وحصل على إجازة الحقوق والفلسفة من السوربون. وقام بدورة الأستاذية مع سيمون دو بوفوار وموريس ميرلوبونتي. وفي عام 1936 ذهب مع بعثة الجامعة الفرنسية إلى ساوباولو البرازيلية، وهناك بدأ تدريس السوسيولوجيا في جامعة ساوباولو. وشرع مع طلابه بإجراء دراسات إثنولوجية حول مدينة ساوباولو وحول فلكلور الضواحي. جمع مجموعة إثنولوجية جيدة من الخزفيات والجلود الفريدة وأسنان وأظافر الحيوانات وقطعاً أخرى وعرضها في معرض في البرازيل. وقد أثبت جدارته كإثنولوجي وحصل على قروض من متحف الإنسان في ساوباولو للقيام ببعثة إلى النامبيكورا.

عاد إلى فرنسا عام 1939 مع بداية الحرب وتم تجنيده. أنهى خدمته العسكرية، وذهب إلى الولايات المتحدة بدعوة من المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي، واستقر في نيويورك. تعرف على أندريه بروتون الذي أدخله في حلقة السرياليين. تبادل الود مع ماكس إرنست وكانا قريبين من بعضهما. أفاده الحماس الفكري للسرياليين، وأصبح حسه الجمالي أكثر غنى ورهافة: "إن السرياليين هم الذين علموني ألا أخاف من المقاربات الفظة وغير المتوقعة. وهذا التأثير ملموس في (الفكر البري). لقد بنى إرنست أساطير شخصية بواسطة صور مقتبسة عن ثقافة أخرى، ثقافة الكتب القديمة للقرن التاسع عشر. وقد قمت في (أسطوريات) بتقطيع المادة الأسطورية، وأعدت تركيب هذه القطع، كي أجعلها تفجر المزيد من المعاني".

بدأ التدريس في "المدرسة الجديدة" في نيويورك واستمر لعدة سنوات. ثم تأسست المدرسة الحرة للدراسات العليا، فبدأ التدريس فيها باللغة الفرنسية لمواضيع إثنولوجية اختارها بحرية. واستمر في التدريس بالمدرستين معاً.

أصبح صديقاً مقرباً لجاكوبسون، واستمرت صداقتهما أربعين عاماً: "إنه رباط لم ينقطع. وبالنسبة إليّ إعجاب لم يتوقف مطلقاً. قبل أيام من موته تلقيت نسخة خاصة لأحد مقالاته مع إهداء: إلى أخي كلود".

تسلم الجانب الثقافي في السفارة الفرنسية في نيويورك. التقى هناك سارتر، وكذلك تعرف إلى ألبير كامو وأخذه في نزهة داخل المدينة.

أصدر كتابيه "المداران الحزينان" و"البنى الأولية للقرابة" في عام 1949 في فرنسا التي عاد إليها قبل عام. تسلم معاون مدير متحف الإنسان ودرّس في معهد الإثنولوجيا، ثم انتخبته مدرسة الدراسات العليا مدرساً في قسم العلوم الدينية في السوربون.

في عام 1952 كتب "العرق والتاريخ"، وفي العام 1958 نشر "الأنثروبولوجيا البنيوية"، وأصبح هذا الكتاب ضارباً في الآفاق، وطالت شهرة شتراوس أوساطاً أوسع من حلقات الاختصاصيين.

ترشح عام 1959 للكوليج دو فرانس وتم قبوله فيها. وسجل كتابا "الطوطمية اليوم" و"الفكر البدائي" عام 1962 نقطة انطلاق جديدة في بحث شتراوس.

استمر في التدريس في الكوليج دو فرانس من 1960 حتى عام 1982.

تم انتخابه عام 1973 في الأكاديمية الفرنسية. ومنذ عام 1964 حتى 1971 كان قد نشر الأجزاء الأربعة من "أسطوريات". ثم نشر عام 1984 "النظرة البعيدة".

يمتلك شتراوس مجموعة من الأسس الفكرية الفريدة، فهو يقول: "الاستعمار هو الخطيئة الكبرى للغرب"، ويقول إن المجتمعات تحافظ على نفسها لأنها قادرة على نقل مبادئها وقيمها من جيل إلى آخر. وتصبح هذه المجتمعات مريضة بدءاً من اللحظة التي تشعر فيها أنها غير قادرة على نقل شيء، أو لا تعرف ماذا تفعل، أو تعتمد على الأجيال اللاحقة.

----

الكتاب: من قريب ومن بعيد

الكاتبان: كلود ليفي شتراوس- ديدييه إريبون

ترجمة: مازن م. حمدان

الناشر: دار كنعان، دمشق، 2000