في الوجه العام للحكاية والبناء الفني يبدو القاص حكمت أبو حمدان ساعياً لرسم لوحات ذات طابع فني انتقائي مما تقع عليه العين وتسمعه الأذن، ليحول الوقائع إلى لوحة تعبيرية أكثر مما يهجس باتجاه معين مع مقاربة فكرية هنا أو هناك وفق الحاجة الفنية وببساطة تميز معظم قصصه.

في مجموعته القصصية "مانيكان" يذهب القاص حكمت أبو حمدان إلى غنى الحياة بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ليلتقط لحظات واقعية تحولها رؤيته إلى لوحات حكائية تمزج بين التصوير والوصف عبر سرديات بسيطة في غالبيتها يرصد من خلالها وقائع حياة أفراد تختلف مواقعهم وهمومهم، ممسكاً بلحظته القصصية عند حدث محدد يعبر بالقصة إلى مرادها القريب أو البعيد.

كثير من تلك القصص القصيرة، التي ضمتها المجموعة، تتحول بين يدي الكاتب إلى لوحات تهجس برسم بعض تفاصيل الشخصيات قدر الحاجة، أو تعتمد السرد والحوار القصير المتقطع للإضاءة على الحدث عبر التركيز في نهاية القصة على ما يريد القاص إظهاره تحت عدسة نصه القصصي سواء بشكل موارب فنياً أو عبر رمزية تبوح بما يعتمل داخل الشخصية، ليكشف لنا في النهاية إلى أين يقصد في توجيه عدسته التي تدور حول ومع الحدث والشخصية ومن خلال تفاصيل تضيء داخل الحكاية وغايتها الفنية.

في قصة "غالب أفندي" نقبض مع الكاتب على لحظة استثنائية في حياة موظف محافظ - في تعاملاته الاجتماعية ـ ويتميز بدقته في كل شيء، حتى ساعته لا يقدمها ولا يؤخرها مع تغير الفصول، لكنه سرعان ما يسقط في "لعبة" القلب عندما تطلب منه سيدة موعداً، فيقوم بضبط عقارب ساعته على الموعد معلناً عن منعطف جديد في حياته.

ريشة أبو حمدان تلتقط في قصة "جارتان" تلك العلاقة الهشة بين جارتين يطل سطح إحداهما على الأخرى، لكن ثمة غيرة غير معلنة تحكم هذه العلاقة التي تتهدم مع نجاح ابنة الجارة الفقيرة لتنال المركز الأول على صفها وتكرم في حفل مدرسي، وحينها تصدم جارتها الخياطة نور التي حضرت حفل التكريم "واضطربت وتغير لونها.. نتعت يد ابنتها وانسحبت منسلة بين الصفوف والغيظ يأكلها".

الهاجس الأساس في المجموعة، كما يبدو في كثير من قصصها، رصد حالات ذات طابع عابر وإن كان إنسانياً في ظاهره ليقدم لوحة قصصية من طبيعة الحياة، ففي "سائق الحافلة" شاب عشريني يعمل سائق باص يتعلق بمدرّسة خمسينية جميلة وتبدو أصغر من عمرها، ويدعوها لتناول القهوة ذات مرة، لكن الأمور تسير على غير ما يرغب بل يصاب بخيبة أمل حين تترك المدرسة وتأخذ إجازة بلا مرتب، ليعود إلى نفسه وواقعه بعد انكسار حلمه المراوغ.

ويأخذنا أبو حمدان إلى إحدى لوحاته إلى مرارة الواقع في قصة "صديقان"، ففيها نتعرف على مهندس وصديقه على مقاعد الدراسة خريج التجارة اللذين التقيا بعد غياب في أحد الأسواق وتواعدا على الزيارة التي تأخرت، لكن الصدفة قادت أحدهما إلى منزل الآخر المليء بالثريات الفخمة والأرائك الضخمة ونفاضات الكريستال الثمينة وغيرها، ما دفع الزائر للسؤال: بكم.. بكم.. وساد صمت ثقيل.

ومن الطبيعي أن يأخذ الحب مساحة كبيرة في المجموعة لأنه الحياة ببساطة، وفي دروبه نتعرف على أشخاص يمتزج فيهم الواقع والخيال عبر لوحات متعددة. ففي القصة التي جاءت عنواناً للمجموعة "مانيكان"، نتعرف على شاب وصبية يقفان على مدخل محل كبير للألبسة عوضاً عن المانيكان، ويقفان كصنمين يسترقان الهمس واللمس رغم معرفتهما أن أي خلل سيتسبب لهما بمشكلة مع صاحب المحل، لكن لحظة فارقة تأخذ بروحيهما حين تمر وسط السوق عراضة عرس، فيغادران وهما يمسكان بأيدي بعضهما في حالة بين الواقع والحلم.

وفي قصة "على الطريق السريع" لحظات عابرة لرجل وامرأة على إشارة مرور يقفان بشكل معاكس، ما يفسح المجال لحوار فيه من الكلام ما يفضح رغبات مكبوتة، تجد فسحة لتحلق للحظات في مكان وزمان عابرين، لكن الإشارة الحمراء أطلقت صافرة الفراق دون أن يتمكن أحدهما من معرفة رقم هاتف الآخر، لتضيع تلك اللحظة الفارقة في معارج الحياة.

أما "عرباية أبو رسمي" فتفيض بحكاية طريفة حين يكتشف أبو رسمي رسالة حب في عربة الخضار التي يعمل عليها ويتركها ليلاً في الحارة التي يعمل فيها، فيقر الحالة ويترك الرسالة مكانها ليعود في اليوم الثاني ويجد الرد. ويتكرر الأمر حتى تغدو تلك العرباية حامل بريد للعاشقين الصغيرين، إلى أن تقرر أسرة أحدهما مغادرة الحارة، لتنتهي هذه المغامرة مع طلب دائرة المخالفات تغيير مكان عمله، لكنه يصر على وصول الرسالة الأخيرة، رسالة الوداع، قبل مغادرة الحارة.

"أنت عبترفس النعمة هيك" تلك الجملة قالها المدير للموظف صابر في قصة "الحمار" عندما رفض الموظف، رغم فقره ومعاناته، النقل إلى قسم المالية، مؤكداً أن هذه الشغلة ليست له، ما يصيب المدير بالدهشة. وعند عودة صابر إلى المنزل يصادف الشرطة وهي تأخذ اللحام لأنه "يذبح حميراً ويبيعها على أنها لحم بقر".

قصص حكمت أبو حمدان تلتقط اللحظات الواقعية والعابرة وتنقلها بلوحات تعبيرية كصورة لها مرجعيتها حين يمتزج فيها رسم بعض التفاصيل المعبرة والواقعية بالخيال، دون إرهاق للمعنى الغامر لأبطال قصصه بسرد يفي بحاجة العدسة لحظة انفتاحها ومن ثم إغلاقها.

----

الكتاب: مانيكان - قصص قصيرة

الكاتب: حكمت أبو حمدان

الناشر: وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب