وُلد إيمانويل كانط عام 1724 في مدينة كونغزبرغ شرق بروسيا، وفي عام 1740 التحق بالجامعة، وقد كانت دراسة الأدب اللاتيني هي أول ما اختاره للدراسة الجامعية. وفي العام 1744 غادر الجامعة وهو في سن العشرين ليكسب عيشه باعتباره معلماً خاصاً، ثم عاد بعد ذلك إلى الجامعة في العام 1755 حيث نال درجتي المدرس والدكتور في الفلسفة.

وجد كانط نفسه لا يقوم بإلقاء محاضرات في المنطق والميتافيزيقا والأخلاق واللاهوت الطبيعي والعلوم الطبيعية فحسب، بل أيضاً محاضرات في موضوعات عملية مرتبطة بها كالتحصين العسكري والألعاب النارية. ولفترة ليست بالقصيرة كرّس جهوده العقلية بشكل أساسي لمعالجة مشكلات العلم الطبيعي، وأسس علماً جديداً هو الجغرافية الفيزيائية أو كما يُطلق عليها اليوم "علوم الأرض"، حيث يُعتبر أول من طرح فرضية الأصل السديمي للنظام الشمسي. وفي نفس السنة 1755 بدأ ينشغل بتأملاته الفلسفية النقدية في أسس المعرفة والمبادئ الأولى لميتافيزيقا وولف، وفي بحث باللاتينية حمل عنوان "شرح جديد للمبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية"، وفيه نجد أقدم عرض لبعض الأفكار الكانطية المميزة عن مثل هذه الموضوعات، كالسببية والتفاعل بين النفس والجسم والبراهين الميتافيزيقية التقليدية على وجود الله.[1]

وقد أجمع مؤرخو الفكر الفلسفي على أن أقطاب الفلسفة منذ العصر اليوناني القديم حتى عصرنا هذا هم أربعة، أولهم أفلاطون وثانيهم أرسطو وثالثهم ديكارت ورابعهم كانط، وهو آخر أولئك العباقرة من أفذاذ الإنسانية المفكرة الذين استطاعوا بحياتهم ومؤلفاتهم أن يخلفوا في الحياة العقلية في بلادهم وخارجها أثراً باقياً عند أهل عصرهم والخلف من بعدهم. ولقد أصبح كانط علماً على فلسفة ينسبونها إليه (الكانطية)، ويطلقون عليها أحياناً اسم "النقدية" وأحياناً اسم "الترنسندنتالية"، حيث كانت فلسفته الركيزة الأولى للمثالية الألمانية، وعبّدت الطريق لانتصارات تلك المثالية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه.[2]

وفلسفة كانط تريد، قبل أن تقرر شيئاً أو تحكم على شيء، أن تضعه في الميزان لتتثبت منه تمام التثبت، فلا يهمها أن تدعي المعرفة، بل تحاول أن تتبين شروط هذه المعرفة. وإذا كانت الفلسفة الكانطية بهذا المعنى العام فهي نقدية كذلك بالمعنى الخاص، وهي خلافاً للنظريات المتطرفة التي ذهب إليها ليبنتز من جهة ولوك من جهة أخرى، تحرص على أن تغرق في تكوين الأفكار بين ما هو صادر عن الإحساس وما هو صادر عن نشاط العقل. فهي تُسلم مع الحسيين بأن مادة أفكارنا تزودنا بها الحواس، وتُسلم مع المثاليين بأن صورة الأفكار وهيئتها هي من عمل العقل، وأن العقل بقوانينه الخاصة هو الذي يحول معطيات الإحساس إلى أفكار. فالنقدية لا تريد أن تكون حسية ولا ذهنية بالمعنى الضيق لهذين اللفظين، إنما تريد في الامتحان الذي تجريه للعقل أن تكون ترنسندنتالية أي حاكمة ناقدة عادلة، مجاوزة لجميع المذاهب التقليدية، وهي أقرب إلى أن تكون منهجاً من أن تكون مذهباً، وأشبه من أن تكون مدخلاً للفلسفة وتمهيداً لها، من أن تكون فلسفة قد تمت وفرع منها.[3]

ويرى كانط أن جميع المبادئ التي يمكن للإنسان أن يسلم بها، إما أن تكون مبادئ تجريبية وهي مستمدة من مبدأ السعادة وتبنى على العاطفة الفيزيائية أو الأخلاقية، ومبادئ عقلية مستمدة من مبدأ الكمال، وهي إما أن تُبنى على التصور العقلي للكمال بوصفه نتيجة يمكن أن تترتب عليها، أو على تصور كمال مستقل بذاته (إرادة الله). والمبادئ التجريبية لا تصلح مطلقاً لأن تؤسس عليها القوانين الأخلاقية، ومبدأ السعادة الخالصة هو أَولى المبادئ بالاستنكار، لا لأنه فاسد فحسب، ولا لأنه لا يُسهم بشيء في تأسيس الأخلاق، بل لأنه يقيم الأخلاقية على دوافع تعمل على هدمها والقضاء على ما فيها من سمو وعظمة، إذ تضع الدوافع التي تحث على الفضيلة مع الدوافع التي تحرض على الرذيلة في صف واحد.[4]

ولم يكن بحث كانط في المعرفة بحثاً لذاته، إنما كان بحثاً غائياً مقصده البحث عن حل يتيح للميتافيزيقا أن تتجاوز وصفها الراهن في عصره لتلحق بركب العلم الذي غدا الأنموذج الأول للمعرفة. وإن ما يميز العلم من وجهة نظره هو وجود العقل ممثلاً بالمعرفة الأولية، ويمكن التحدث عن نوعين من المعرفة الأولية عند كانط، الأول يُشتق على نحو غير مباشر من التجربة، والثاني هو الذي تتأسس عليه القوانين العامة التي تحكم كل الظواهر أو كل الأفعال التي يكون فيها القانون العام صالحاً في كل زمان ومكان. والمعارف الأولية هي المعارف التي بوسعها وحدها أن تحقق الضرورة والعمومية، وهما المعياران اللذان يميزان المعرفة العلمية من التجريبية، والعلوم التي استطاعت أن تؤسس معارفها على معارف أولية خاصة هي العلوم التي سلكت دروب العلم الآمنة، ومن هذه العلوم الرياضيات التي يرى كانط أنها تعطي المثال المبهر للعقل الخالص الذي يتوسع في تشييد بنائه من تلقاء ذاته دون مساعدة التجربة. كذلك العلوم الطبيعية، ويندرج تحتها الفيزياء والكيمياء والميكانيكا. وقد رأى كانط أن الفيزياء تنتمي إلى الفلسفة وليست تجريبية فقط أو رياضية، إنها موضوع خاص أو منطقة خاصة لفلسفة على النقيض من الرياضيات.

ولم يُرد كانط أن تلعب الفلسفة دور القاضي على العلوم والثقافة ككل، بقدر ما أراد أن يوضح الأساس الذي ترتكز عليه هذه العلوم، وكيف أن هذه الأسس واحدة في كل العلوم بهدف الاقتداء بهذه الأسس في تأسيس الميتافيزيقا لكي تصبح علماً. وقد قسم الميتافيزيقا إلى أربعة أجزاء رئيسية هي الأنطولوجيا وعلم الفيزيولوجيا العقلية وعلم الكوسمولوجيا العقلية واللاهوت العقلي، وقد تناول هذه الأجزاء الأربعة في مجمل البحث الفلسفي التقليدي في كتبه، حيث يذهب إلى أن ميتافيزيقا الأخلاق وميتافيزيقا الطبيعة ومعها النقد، تمثل ما يمكن أن يُسمى فلسفة بالمعنى الصحيح.[5]

----

المراجع

[1] كانط، آلن وود، المركز القومي للترجمة 2014، ص 21- 22.

[2] رواد المثالية في الفلسفة الغربية، عثمان أمين، دار المعارف، ص 57- 58.

[3] المرجع السابق، ص 58- 61- 62.

[4] تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانويل كانط، منشورات الجمل 2009، ص 135- 136.

[5] أنطولوجيا الوجود، إيمانويل كانط، دار التنوير للطباعة والنشر 2009، ص 149- 152- 159- 163- 186- 187.