العمارة الحقيقية هي التي تأسست خارج الكهف، ومن المستحيل فرز جوهر العمارة عن باقي تشكيلاتها لا قديماً ولا حديثاً، لأن محتويات العمارة اندمجت في بوتقة واحدة اندماجاً قوياً، شكّلت مجموعة واحدة ذات خصائص فنية وثقافية واحدة، دعيت فيما بعد بالعمارة.

إن المكتشفات الأثرية في سورية والتي تعود إلى حضارات الألفيتين الثالثة والثانية قبل الميلاد، أثبتت أن العمارة أول ما ولدت وترعرعت فوق أرض سورية، ثم إلى الرافدين وإلى ساحل البحر الأبيض المتوسط التي أعطت العالم حضارات متنوعة (ماري، أوغاريت، تل حلف، عين دارا، وغيرها) وقد تركت إرثاً معمارياً وحضارياً ومنبعاً للفنون التي ظهرت فيما بعد مثل الفن (الهلنستي والساساني والروماني والبيزنطي).

العمارة السكنية في منطقة سلمية

عرفت العمارة السكنية في "سلمية" منذ آلاف السنين، وقد وجدت آثار قديمة تؤكد ذلك، ومنها أنموذج لبيت مؤلف من طابقين مصنوع منذ حوالي 3 آلاف سنة قبل الميلاد. وقد وجد هذا الأنموذج أحد علماء الآثار في إحدى جولاته التنقيبية في منطقة "سلمية" أوائل القرن الماضي، ولايزال هذا الأنموذج في متحف حلب حتى الآن. ومنذ ذلك التاريخ لم تخلُ سلمية يوماً من السكان، وازدهرت عمرانياً لمرات عديدة، تخللتها فترات قليلة تهدمت مبانيها من الكوارث الطبيعية والحروب في المنطقة. ومن الطبيعي أن تكون في منتصف دائرة الحروب القديمة نتيجة موقعها الاستراتيجي بالنسبة إلى الكثير من الحضارات التي نشأت في سورية.

ومن أهم الآراء الحديثة التي تقول إن "سلمية" القديمة وقبل الميلاد، كانت منطقة وسطية تشكل نقطة التقاء تجارية للمناطق الساحلية والمناطق الصحراوية والجنوبية (قطنة) مع المناطق الشمالية والممالك التي قامت في الجزيرة السورية. وقد عرفت "سلمية" الحديثة منذ عام 1848 يوم وصلت إليها أول قافلة من العائلات القادمة من المنطقة الغربية والتي سكنت القلعة. ثم خرجت بعض العائلات للسكن داخل الحمام الأثري بعد إعادة تأهيله للسكن (حيث كان بناؤه سليماً وهو الذي رمم أيام الفترة الأيوبية فبقيت حالته مقبولة).

البيت الريفي

مهما ارتفع الإنسان ببنيانه ومهما علا بسكنه إلى ما فوق السحاب، تبقى ذاكرة الإنسانية تحن إلى السهول والروابي والأمكنة التي تربى فيها ونام في هدوئها وفي حضن الطبيعة الخلابة واستنشق رائحة زهورها واستمتع باخضرار أشجارها وهوائها النقي، وحوله تنتصب البيوت المتماثلة التي تشكل بيتاً واحداً لعائلة واحدة. والحياة الريفية العادية تعني المجتمع المشترك، حيث يرتبط الفرد باهتمامات الجماعة أكثر من اهتماماته الشخصية.

إن نشأة القرى والتجمعات التي هدف إليها الإنسان القديم ترجع إلى حوال 8000 قبل الميلاد، حيث وجدت مجموعة من المنازل الريفية في العراق وفي سورية 6000 قبل الميلاد، وقد استخدم الطين المضغوط في بناء جدرانها وجذوع الأشجار والأوراق لتغطية الأسقف. وتنوع وجود القرى المشادة على ضفاف الأنهار والبحيرات وبين الواحات وسفوح الجبال الغنية بالمواد الغذائية. وهذه البدايات هي نتاج الطبيعة التي تظهر أن الزراعة والري يؤديان إلى استمتاع الإنسان بفترات طويلة من الفراغ؛ فالعمل في المزارع يقتصر على مواسم معينة، والشتاء طويلة لياليه، وفيه فترات راحة من العمل.

سمات العمارة الريفية

من أبرز سمات العمارة الريفية تناقضها مع عمارة المدن، وهي عمارة محافظة على تقاليدها، وتطورها قليل وبسيط، قد لا يلاحظ خلال قرون. والعمارة الريفية سهلة التكوين وهي بعيدة عن التعقيد والبهرجة، والزخرفة نادرة فيها، همها الأول تلبية حاجات الإنسان الريفي قبل كل شيء، وهي تتشكل بتأثرها بمهنة الإنسان وحاجاته الخاصة. ورغم توالي السنين ومرور القرون العديدة والأزمات الكبيرة، بقيت العمارة الريفية بعيدة عن المتغيرات، وظلت بيت شعر مصنوع من وبر الجمال وخيوط الصوف والقطن أو بيت من الحجر الموجود في جميع المناطق السورية، أو بيت مصنوع من الطين والحجر وهذه النوعية موجودة في المدن والريف.

تعبير عن الحال المادية

البيت الريفي يهتم براحة سكانه مادياً ونفسياً، ويوفر لهم الخصوصية التي ينشدونها ويراعي في تصميمه جودة الإضاءة والتهوية السليمة والحرارة وتوزع الصوت، ويهتم بالتقريب بين السكان وروابطهم الأسرية داخل البيت والروابط الاجتماعية مع الجيران وما حولهم، والحفاظ على بيئة سليمة، بالإضافة للوضع الاقتصادي الخاص بالسكان. ولهذا هو يتمتع بالأسقف العالية والغرف الواسعة المريحة والأبواب الكبيرة والمزخرفة والشرفات الواسعة، ولذلك تعد هذه البيوت السكنية بيوتاً صحية.

في سلمية

بدأ بناء البيوت الريفية في سلمية منذ عام 1848 للميلاد وامتدت حتى عام 1865 مع وصول الدفعة الأولى من الأهالي إلى سلمية وسكنهم القلعة، ثم الانتشار حول القلعة عبر بناء مساكن من الحجر واللبن والطين وقباب مبنية من اللبن الطيني. تناثرت عمارة البيوت بشكل عشوائي حول الحمام الأثري وبينه وبين المسجد ذي المحاريب السبعة، وفي هذه الفترة تداخلت البيوت مع بعضها البعض، ولم تكن هناك أي فواصل بين وحدات البناء، وتلاصقت الكثير من القباب والغرف مع أنها تعود لمالكين مختلفين، وهذا كان دافعه الخوف من المنطقة الجديدة التي سكنوها، وضرورة تأمين الأمن والراحة هي العامل الأساسي في تكوين وحدات البناء. لقد كان السكان يشعرون بالراحة لقربهم من بعضهم البعض وكأنهم عائلة واحدة.

المرحلة الثانية وتبدأ 1865 حتى 1920 للميلاد؛ حيث ظهرت أبنية ذات شكل رباعي مبنية على نسق واحد مع مقاسات للغرف شبه واحدة والأسقف من اللبن والطين والقصب المفرغ المتعامد فوق جذوع الأشجار وعليه الرمل تحت الخلطة الطينية.

المرحلة الثالثة 1920 حتى 1948 ميلادي، وظهرت احتياجات جديدة كغرف منفصلة للضيوف. وانعكست البحبوحة المادية للسكان على عمارة البيوت، وظهرت البيوت الجميلة معمارياً من الإسمنت وصممت الخزائن في الجدران مع درف خشبية وزجاج.

----

الكتاب: العمارة وتطور البيت الريفي

الكاتب: غالب المير غالب

الناشر: 2009