تبدو الطريقة العلمية معقدة في شكلها النهائي، لكنها في جوهرها غاية في البساطة، فهي تتلخص في ملاحظة الحقائق التي تمكن من يلاحظها من اكتشاف قوانين عامة تسري على حقائق من نفس النوع. والطريقة العلمية على بساطة روحها لم تُكتسب إلا بمشقة بالغة، ولا يزال من يستخدمونها قلة من الناس، وحتى هذه القلة تقتصر في استخدامها الطريقة العلمية على قلة من المسائل التي تحكم عليها.

كان نصيب الإغريق في خلق العلم ضئيلاً، رغم بروزهم في معظم نواحي النشاط الإنساني، فالعبقرية الإغريقية كانت عبقرية قياسية أكثر منها استقرائية. وفي العصور التالية كادت الرياضة الإغريقية تُنسى، في حين بقيت وازدهرت نتائج أخرى لولع الإغريق بالقياس منها (اللاهوت والقانون). أما العرب فقد كانوا أكثر ميلاً إلى التجريب من الإغريق خاصة في الكيمياء، لكن آفة العرب تختلف عن آفة الإغريق، فقد كانوا ينشدون الحقائق المنفصلة أكثر مما ينشدون المبادئ العامة، ولم يكن لديهم المقدرة على استخلاص قوانين عامة من الحقائق التي اكتشفوها.

والطريقة العلمية كما نفهمها اكتملت في العالم على يد غاليليو ومعاصره كيبلر، ولقد كانا يتدرجان من ملاحظة حقائق خاصة إلى تقرير قوانين كمية دقيقة يمكن بفضلها التنبؤ بحقائق خاصة جديدة. أما إسحق نيوتن الذي وُلد في العام الذي توفي فيه غاليليو، فقد كان نصره أروع نصر في تاريخ العلم، حيث كان الفلك في زمن الإغريق أكثر العلوم تقدماً وأعظمها مكانة، فجاء نيوتن ليضرب ضربة واحدة وهو قانون الجاذبية، ولم يقتصر على تعليل الظواهر الكبرى، بل علل كل الأمور الدقيقة التي كانت معروفة في هذا العصر، كذلك وجد أن المذنبات نفسها تسير وفق قانون الجاذبية، وكانت قبل زمن غير بعيد تتقد إيذاناً بموت الأمراء.

وكذلك داروين فقد سيطر على النظرة العلمية لعصر من العصور كما فعل نيوتن، ليس بين رجال العلم وحدهم بل بين جمهور المتعلمين كله. أما بافلوف فقد قضى حياته العلمية يختبر سلوك الكلاب، وانحصر عمله في ملاحظة لعاب الكلاب متى وبأي قدر تسيل، وفي هذا تتمثل إحدى الخصائص العظمى للطريقة العلمية التي تميزها عن طرق الميتافيزيقيين أو اللاهوتيين، فرجل العلم إنما يبحث عن الحقائق ذات المغزى من حيث تأديتها إلى قوانين عامة، وتكون هذه الحقائق في الأغلب خالية تماماً من الأهمية الذاتية. ولقد كان من أهم سمات نظرته العلمية الحديثة أنه على خلاف نيوتن وداروين لم يحاول عرض نظرياته في وقور رزين حيث قال: "إنني لم أقدم عرضاً منظماً لنتائجنا خلال الأعوام العشرين الأخيرة، لسبب يعود إلى أن الميدان جديد تماماً، والعمل كان في تقدم مستمر، فكيف كان لي أن أظن لحظة أني حصلت على نظرة شاملة فأنظم النتائج، بينما الجديد من التجارب والمشاهدات يأتينا كل يوم بالجديد من الحقائق".

والعلم في مثاليته النهائية يتكون من مجموعة من القضايا بعضها فوق بعض درجات، والمستويات المختلفة للحقائق يرتبط بعضها ببعض بعلاقتين منطقيتين إحداهما صاعدة (استقرائية)، والأخرى هابطة (قياسية)، والعلم الوحيد الذي اقترب شيئاً ما من الكمال هو علم الطبيعة.

لقد كانت الهندسة عند الإغريق كما ظلت عند المحدثين قبل المئة سنة الأخيرة، دراسة أولية شأنها كشأن المنطق الصوري، ولم تكن علماً تجريبياً يعتمد على الملاحظة. وقد أوضح لوباشفسكي أن هذا وضع خاطئ، وأن صحة هندسة إقليديس يمكن إثباتها بالملاحظة لا بالمنطق. ومع أن هذا الرأي وجد فروعاً جديدة في الرياضة البحتة، فإنه لم يؤت ثمرة في الطبيعة حتى العام 1915 حين تضمنته نظرية آينشتاين العامة في النسبية، وهكذا أظهر أن نظرية فيثاغورس ليست تامة الصحة، وأن الحقيقة التي توحي بها تتضمن قانون الجاذبية كعنصر من عناصرها أو نتيجة من نتائجها. وقانون الجاذبية هذا ليس بالضبط، هو قانون نيوتن بل يختلف عنه في نتائجه الملاحظة اختلافاً طفيفاً. وقانون آينشتاين في الجاذبية أعم من قانون نيوتن، فهو ينطبق لا على المادة فحسب بل على الضوء والطاقة، وقد كانت نظريته تتطلب كمقدمة لها لنظرية نيوتن وحدها بل كذلك نظرية الكهرباء المغنطيسية وعلم التحليل الطيفي وملاحظة الضوء والقدرة على الملاحظة الفلكية الدقيقة وإتقان التصوير الفوتوغرافي. لقد ظلت أهمية الحقيقة الدالة واضحة تمام الوضوح طيلة تاريخ علم الطبيعة منذ أيام غاليليو حتى اليوم، وهذه الحقائق في أي مرحلة من مراحل نمو النظرية تختلف تماماً عن الحقائق الدالة في مرحلة أخرى.

الحكومة العلمية

لقد سار العلم من حيث هو معرفة في تقدم سريع جداً في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنه لم يبدأ بالتأثير في نهج الإنتاج إلا في أواخر القرن الثامن عشر. أما تطبيق العلم على المسائل الاجتماعية فهو أحدث حتى من تطبيقه على علم النفس الفردي. والحق أن هناك قليل من الاتجاهات التي يستبين فيها الموقف العلمي منذ بداية القرن التاسع عشر. إن نظرية مالتوس في السكان هي نظرية علمية استندت إلى إحصاء السكان ونفقات الزراعة، كذلك كان آدم سميث وريكاردو علمين في الاقتصاد.

والمجتمع العلمي هو المجتمع الذي يستخدم منهجاً علمياً في الإنتاج والتعليم والدعاية، وله خاصية تميزه عن مجتمعات الماضي التي أوجدتها أسباب طبيعية دون كثير من التخطيط العمد، ولا يمكن اعتبار المجتمع علمياً خالصاً ما لم يُبنَ عن عمد ليحقق غايات خاصة، وقد زاد النهج العلمي من مقدرة الحكومات بحيث صار من الممكن إحداث تغييرات أعمق وأبلغ في بناء المجتمع.

أما الحكومة العلمية، فلا تعني أنها حكومة تتكون من رجال العلم، إنما بقدرة الحكومة على إحداث نتائج مقصودة، وكلما زاد عدد النتائج التي تستطيع القصد إليها وإحداثها، زادت علميتها. وبفضل زيادة المعرفة تستطيع الحكومات الآن أن تحدث من النتائج المقصودة ما يزيد كثيراً عما كان يُستطاع في الأزمنة الماضية.

إذاً في الظروف الحديثة يطلب إلى العاملين في حقل العلم شيء أكثر من مجرد توسيع آفاق المعرفة، فهم لم يعودوا يستطيعون السماح لغيرهم بأخذ نتائج اكتشافاتهم واستخدامها دون إرشاد، فالعاملون في العلم يجب أن يقبلوا مسؤولية الإشراف على القوى التي كشف عنها بحثهم، وبدون مساعدتهم يستحيل قيام إدارة قادرة أو سياسة متنورة.

إن النزعة إلى البناء العلمي نزعة طيبة إن لم تتعارض مع غيرها من النزعات الكبرى التي تضفي القيمة على الحياة. والعلم خلال قرون تاريخه القليلة نما نمواً لكنه لم يكتمل بعد. وهذا النمو هو الانتقال من التأمل إلى التحكم، وحب المعرفة الذي إليه مرد نمو العلم يرجع هو الآخر إلى باعثين، فنحن قد نلتمس المعرفة بشيء من الأشياء لأننا نحب هذا الشيء، أو لأننا نحب أن نسيطر عليه. ويؤدي النوع الأول إلى النوع التأملي من المعرفة، ويؤدي الباعث الثاني إلى النوع العلمي من المعرفة. والمعرفة إن كانت واسعة دقيقة، جلبت معها إدراكاً للبعيد من الزمان والمكان.

----

الكتاب: النظرة العلمية

ترجمة: عثمان نويه

الكاتب: برتراند رسل

الناشر: دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 2008