يكاد يكون الكاتب والناقد الموسيقي صميم الشريف من أوائل الكتاب الذين وثقوا للحياة الموسيقية وأعلامها سورياً وعربياً، واستطاع أن يمزج بين التحليل الفني الموسيقي والسيرة الذاتية والواقع الفني برؤية علمية منهجية ثاقبة.

قدم صميم الشريف كتابه الأول بعنوان "الأغنية العربية"، ثم أردفه بكتابه الذي طبعته وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب بثلاثة أجزاء وهو "الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ"، ليأتي الكتاب ضمن سلسلة دراسات موسيقية بعنوان "السنباطي وجيل العمالقة". ولم يكن ذلك المؤلف إلا نتيجة جهد دام لسنوات في البحث والتحليل حتى توصل إلى النتائج التي أغنت المكتبة الموسيقية بالمعلومات النقدية والعلمية الزاخرة.

يشير الراحل الناقد الموسيقي صميم الشريف في كتابه "السنباطي وجيل العمالقة"، إلى أن جيل زكريا أحمد ، ومحمد القصبجي، ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وأم كلثوم، وأسمهان، وفريد الأطرش، غربت شمسه، ومضى في رحلة العمر، ولم يبق منه سوى ذكريات فنه الشامخ، والمسرة التي صنعها للناس.

أوضح صميم الشريف أن جيل العمالقة هذا، الذي أرسى دعائم الغناء العربي في القرن الماضي، والذي ستعيش أجيال وأجيال على الثروات الفنية التي خلفها، سيظل العلامة البارزة في تراثنا الفني العربي إلى الأبد. والموسيقار رياض السنباطي، هو المحور الذي قام عليه هذا الكتاب- والذي غاب في التاسع من أيلول 1981 في زحمة الأحداث، وغفا إغفاءته الأخيرة، - كان آخر الكلاسيكيين المبدعين، لم تجرفه فوضى التجديد الارتجالي، ولم يجر وراء موجة الصراعات التي قامت على اللاشيء، واجتاحت إلى حين كل شيء دون أن تعطي ثمراً.

ويؤكد أن رياض السنباطي هذا كان يحترم أسلافه الكبار، ويحترم العلم الذي جاؤوا به، والعطاء الذي بذلوا، من أجل الارتفاع بالفن الموسيقي والغنائي، كان يقول: "من يستطيع أن يفعل شيئاً بعد "سيد الكل" سيد درويش؟".

ومن احترامه لأسلافه الكبار، ومن غنى عطاءاتهم، تدفق إبداعه في كل ضروب الأغنية العربية، دون أن يخرج على قوالبها الفنية التي حملها كثيراً من الضغط لتفي بحاجات العصر، بدءاً من الأغنية الشعبية، والطقطوقة، ومروراً بالأغنية الدينية والمونولوغ، وانتهاء بالقصيدة التي يعتبر سيدها المطلق. ومن الصعب حصر أعماله في الأغنية العربية وتعدادها منذ أن مارس التلحين واحترفه في أواخر عشرينيات هذا القرن، والتي – كما قيل- تربو على ألف عمل غنائي وموسيقي، وهي على كثرتها ستكون هدفاً من أهداف هذا الكتاب، بالإضافة إلى سرد جانب من جوانب حياته وحياة أهل الطرب، وإلقاء الضوء على فنه الشامخ، وفن العمالقة الآخرين الذين عاصروه، حتى وقف معهم على قمة الغناء الكلاسيكي، متميزاً بمدرسته التي لا غنى عنها لأي ملحن يريد لشخصيته الفنية أن تكتمل، قبل أن يحتل المكانة المرموقة التي يصبو إليها.

ونوه الشريف أن على يدي درويش تخلصت الأغنية العربية من ابتذالها، وعلى يديه ارتفعت بشاعرية قلما سما إليها ملحن عدا القصبجي ومحمد عبد الوهاب، وربما كان في لقاء القمتين القصبجي والسنباطي- في فترة زمنية واحدة، وتعايشهما في نظرتهما المشتركة لمستقبل الأغنية العربية، من العوامل التي دفعت إلى ازدهار فن الغناء العربي على أيديهما، إن في الأغنية الخفيفة والسينمائية، أو في رومانسيات المونولوغ والأغنية الطويلة، أو في القصيدة التي شمخ بها السنباطي بالذات شموخاً، جعلت الملحنين حتى الكبار منهم يهابون تلحينها خوفاً من عدم الارتقاء بها إلى سفح القمة السنباطية.

ويؤكد الناقد صميم الشريف مضمون الكتاب السنباطي حول حياته التأليفية، والعملاق الذي دخل محراب العمالقة بقوة فنه وشخصيته، وهو أيضاً دراسة لأعماله وأعمال العباقرة الآخرين الذين دخلوا محراب عزلته، دون أن يتمكنوا من شرخها، منهم: أم كلثوم، محمد القصبجي، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، أحمد رامي، أحمد فتحي، مصطفى عبد الرحمن، فريد الأطرش، ومطربون ومطربات وشعراء أغنية، وزجالون، وكلهم كان لهم نصيب عنده، وكانت لهم حظوظ في ألحانه، وكانت له صداقات معهم، وكان وأداء ولحناً.

الكتاب يتحدث أيضاً من خلال السنباطي، عن دور العمالقة جميعاً: ازدهار الأغنية بدءاً من نزوح السنباطي في أواخر العشرينيات من المنصورة إلى القاهرة، ومروراً من تلمس طريقه في القاهرة المزدحمة بمئات الملحنين والمطربين والمطربات، وبزوغ فنه شيئاً فشيئاً، وانتهاء بنجوميته والإقرار بعبقريته، وبما قدمه حتى آخر يوم في حياته من أعمال لا نستثني منها الغض والعادي أو الرائع الخلاق.

عمل الراحل الناقد الموسيقي صميم الشريف على تقسيم الكتاب إلى أجزاء، بحيث احتلت فيه الشكوك التي دارت حول عمره الحقيقي وولادته وانتقاله من مسقط رأسه في فارسكور إلى المنصورة الجزء الأول، وشغل نزوحه إلى القاهرة وسني أواخر العشرينيات الجزء الثاني، بينما خصصت الأجزاء الأخرى لعقود السنين كمراحل ومحطات لمشواره الفني، فاختصت الثلاثينيات بجزء والأربعينيات بجزء آخر، وهكذا حتى يحط رحاله عند مستهل الثمانينات التي أظلمت فيها القاهرة ومصر ودنيا العرب عندما خبا وانطفأ النور في عيني ذلك العملاق الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بألحانه طوال نصف قرن ونيف من الزمن.

----

الكتاب: السنباطي وجيل العمالقة.

الكتاب: صميم الشريف

الناشر: وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب، 2010