يطرح الباحث والفيلسوف ندرة اليازجي في كتابه "هندسة الروح أو أشكال صوفيا"، الحكمة البدئية، بحيث يؤكد أنها صاغت كيانها في شكل الإنسـان وفي الأشكال والأشياء التي نلمسها بأيدينا، أو نراها بعيوننا، أو نبصرها أو نتصـورها بعقولنـا أو نحدسـها بأرواحنا، ونعتبرها تمثلاً للقانون الكوني الأسمى الـذي يشمل جميـع القـوانين الفيزيائيـة والمتافيزيائية.

يؤكد الباحث ندرة اليازجي أن صوفيا، هي الحكمة الماثلة في الوعي الكوني، الـتي استترت في جميـع الأشكال والأشياء، وبقي سرها خفياً إلا على الحكماء، من عرفانيين وعلماء مبدعين ومستنيرين، الـذين تعمقوا في معاينة سرّانية الوجود المادي ومعرفة الحقيقة الكامنة في جـوهر كيـان الأشــياء والأشكال، والمتجلية في ظاهراتها.

هي صوفيا الحكمة التي أبدعت هندسة كل شيء وكل شكل، وكانت حياة فاعلة في كل شيء وفي وفي كل شكل، ففي دراسة وفهم كل شيء وكل شكل تتحقق دراسـة وفـهـم وتأمل الهندسة الروحية التي تشير إلى صياغة صوفيا، الحكمة ذاتها في المادة وكمـون وعيهـا فيها. وفي دراسة وفهم وتأمل حقيقة جوهر الأشياء والأشكال، تتحقق دراسة وتأمـل الهندسـة التي أبدعتها حكمة الروح ووعيها في الأشكال والأشياء. هكذا، تعلمني صوفيا، الحكمة أن أعاين الروح، التي "هندست" كيانها في كل شـيء وفي كل شكل، بنور الوعي الكامن في العمق والاتساع اللذين تتميز بهما روحي.

ويطرح الفيلسوف اليازجي الأسئلة الثلاثة التالية التي تهيئ الولوج إلى المبدأ الرئيس لجوهر أطروحة مفهوم الكونية.

أولاً– ماذا أعني عندما أقول: أشعر بألم أو بفرح في أعماق كياني؟

ماذا أعـني عندما أعبر عن نفسي أو شعوري وأنا أقول: إني أتأمـل أعماق الكـون، والأجـواء اللانهائية، والوجود والحياة؟

ماذا أعني عندما أقول: إني أتأمل عمق كياني، وأقف متعجباً أمام معجزة وجودي وسرانيته؟

هل أعتبر هذه الأعماق الكونية الماثلة في الوجـود والأعماق الإنسانية الماثلة في كياني حقيقة واحدة؟

وهل أن العمق الكامن في الإنسان هو العمق الذي نتحدث عنه ونحن نطرح قضية الكون والوجود والحياة ؟

ثانياً- كيف يستطيع عالم الرياضيات، وهو يسعى إلى البحث عن حقيقة الكون الأكبر، أن يحسب الأبعاد الكونية على نحـو عـام وأبعاد النظام الشمسي على نحو خاص، وهو جالس في غرفته يتأمـل الاتساع الكـوني وامتداده اللامحدودين؟

كيـف استطاع هذا العالم الحكيم قياس تلك الأبعاد بدقة دون أن تتوافر لديـه أدوات القياس المعتمدة والمألوفة لتقدير المسافات؟

هل إن قدرته على قياس تلك الأبعاد دليل على وجود تلك الأبعاد ذاتها في كيانه على نحو مصغر وعلى نحو مبادئ عقلية أولية، يستمد منها المعرفة المجردة والإدراك الحسي؟

وهل إن أبعاده النفسية وامتداداتها، واتساعاته الفكرية والروحية تتوافق مع الأبعاد والاتساعات الكونية، التي يحسبها على نحو قياس دقيق قابل للامتداد والاتساع اللانهائيين، وهـو يتأمل تلك الأعماق دون أن يجتـاز المسافات القائمة بينها، كأمكنة ودون أن يرتحل بجسده إليها؟

ثالثاً-إن كنـت أتحـدث عـن الزمـان والمكـان في نطاقيهمـا وفي علاقتهما المتداخلتين، وأطرح قضية الأزمنة والأمكنة في نطاقاتها الكونية والأرضية، وفي علاقاتها المتداخلة في النظام الشمسي بعد تكوين العالم المادي، أو في الوجود الكلي، فإنما لأطرح على نفسي التساؤلات التالية: ما هي حقيقة الزمان والمكان في كياني ووجـودي؟ كيـف أحسبهما أو أقيسهما في زماني ومكاني الداخليين، المتداخلين والمتفاعلين في كيان واحد غير منقسم؟ وهل يوجد زمان نفسي ومكان نفسي في الفراغ الممتلئ؟ وهـل أن زمـاني ومكاني يتوافقان ويتلازمان مع زمان ومكان الكون أو مع زمان ومكان النظام الشمسي؟

ويرى الفيلسوف اليازجي أن الإنسان هو الكون الصغير الذي ينطـوي فيـه الكـون الكبير، هو اللانهاية الصغرى التي تنطوي فيها اللانهاية الكبرى، هـو الجـزء الـذي ينطوي فيه الكل، وإذ أدركت، وأنا الآن أدرك هذه الحقيقة، رأيت نفسي أتجه إلى إقامة الدليل على الألفة أو الاتصالية أو التآلف القائم بين الإنسان والكـون، ويتمثـل اتجاهي في فهم آراء ونظريات العلماء العرفانيين، والباحثين الحكماء الذين أكدوا أو مالوا إلى التأكيد، في دراساتهم الاختبارية، وجود الاتصالية بين الكون الأصغر والكـون الأكبر ضمن وحدة كونية متماسكة عبر مستويات يشتمل أعلاهـا على أدناها، ليصبح مستوى أدنى يتضمن في مستوى أعلى يشتمل عليه حتى تتحقق وحـدة المستويات في کيان كوني واحد. وقد أشار العلماء العرفانيون والإنسانيون إلى أن التعمق في دراسة الكون الأصغر تؤدي إلى ولوج نطاق الكون الأكبر ومعرفة أسراره، وأن التعمق في دراسة اللانهاية الصغرى تؤدي إلى دراسة اللانهاية الكبرى، وأن دراسـة الجـزء تعني دراسة الكل، وأن دراسة المادة تعني دراسة الحياة والروح، على نحو مماثل.

لقد اتكأ الفيلسوف اليازجي على حقائق اقتبسها من علماء أفذاذ أمثال كابرا، بريغوجين شلدراك، جينز، إدنغتون، شرودنغر، آينشتاين، بولي، شاردان، کوزيرف، هويلر، غودل، دافيس، وغيرهم، ومن علماء نفس الأعماق وعلم النفس التكاملي والتوحيـدي أمثال يونغ وويلبر، ومن فلاسفة مرموقين وحكماء وأخلاقيين عظماء.

ووضع كونيـة الإنسان بوصفه موضع أو عقدة لقاء اللانهايتين، وأدرك أن السرانية العظمى تكمن، في فهمنا للكونية، في طيفها الواسع، وهو لا يستطيع التحـدث عـن كونيـة كـبرى ولانهائية تخرج عن نطاق كونية الوجود الإنساني الصغرى والمضمونة في لانهاية الكونية الكبرى. كذلك لا يستطيع التحدث عن كونية الوجود الإنساني الصغرى بمعزل عن كونية الوجود الكبرى، لأنه يحترم الوجـود الإنساني ويجله.

ويقول اليازجي معترفاً: لا أستطيع أن أدعي بأنني كوني، أو باحث في مفهوم الكونية، أو عالم بحقيقة الكونية أو مدافع عن العالم في كونيته ما لم أكن كونياً في عمق كياني وجوهري وحقيقتي، وفي سرانية وجودي، وفي هذا المنظور، عاينت الكونية في الكون كله، وفي العلم المتصل بهذه الكونية، وفي كل عمل إبداعي أو إنجاز إنساني، أكان إنجازاً في نطاق الطب والبيولوجيا، الكيمياء، الفيزياء، الأدب، الفلسفة، علم النفس، علم الاجتماع والاقتصاد، الرسم، الموسيقى، الفكر المستنير، أو في أنواع السلوك التي نعتبرها بسيطة كالخدمة والتضحية. لقد علمت أن ما هو إنساني في حقيقته هو طبيعي وكوني وروحي في جوهره، فالقوانين الطبيعية كونية سعى الإنسان جاهداً إلى معرفة رموزها وتبني قواعدها لتكون عوناً له لمعرفة نفسه وسر وجوده، والقوانين الإنسانية هي قوانين طبيعية وكونية وروحيـة تـدعو الإنسان إلى تطبيقها لكي يتحد مع الوجود الكلي.

----

الكتاب: هندسة الروح أشكال صوفيا

الكاتب: ندرة اليازجي

الناشر: دار أمواج، 2005