الاكتئاب ليس أمراً يسهل التخلص منه، يعُرف بأنه اضطراب اكتئابي حاد، أو اكتئاب سريري. وهو مرض يصيب النفس والجسم ويؤثر على طريقة التفكير والتصرف، ومن شأنه أن يؤدي إلى العديد من المشكلات العاطفية والجسدية، حيث إنه يُعد أحد أكثر الأمراض المنتشرة في العالم. وعادةً لا يستطيع الأشخاص المصابون بمرض الاكتئاب الاستمرار بممارسة حياتهم اليومية كالمعتاد، إذ إن الاكتئاب يُسبب لهم شعوراً بانعدام أية رغبة في الحياة.
قد يصيب الاكتئاب جميع الفئات العمرية؛ حيث إنه لا يقتصر على عمر أو جنس أو عرق أو فئة محددة. يرى الباحثون أن أهم أسباب الاكتئاب التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم، هو شعور الشخص بفقدانه القدرة على السيطرة على مسار حياته بسبب ضغوط خارجية تفوق قدرته على التحكم بها أو التعامل معها. إنه مرض خطير يؤثر على الفرد وحياته الشخصية ومحيطه القريب بشكل أساسي، لكن عندما يصبح الاكتئاب مشكلة عامة في ظل ظروف تؤثر على المجتمع بأسره كالعزلة التي فرضها انتشار جائحة كورونا أو الأزمات الاقتصادية التي تمر بها معظم بلدان العالم والأهم من ذلك تلك البلدان التي تتعرض لحروب قاسية ويعيش أفرادها تداعيات هذه الحروب وآثارها الاجتماعية والاقتصادية؛ في تلك الحالة يشكل الاكتئاب خطراً على المجتمع بأسره، ولا بد من البحث له عن حلول جدية.
ترى دراسة جديدة أن التعبير عن الأحاسيس، بما في ذلك تلك المرتبطة بالحزن، يشكل مفتاح التعافي من الاكتئاب. يمكن أن تكون الأحاسيس الجسدية التي تصاحب الحزن غير مرغوبة، وقد تكون شديدة أيضاً مثل: الانقباض في الصدر، والعيون الدامعة، والحلق الجاف، على سبيل المثال لا الحصر.
لكن نورمان فارب، الأستاذ المساعد في علم النفس بجامعة تورنتو ميسيسوجا، وزينديل سيغال، أستاذ علم النفس المتميز في اضطرابات المزاج في جامعة تي سكاربورو، اكتشفا أن الحفاظ على الإحساس حياً في مواجهة التوتر، أمر بالغ الأهمية للصحة، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين تعافوا من الاكتئاب.
في أكبر دراسة تصوير عصبي حتى الآن للعلاج النفسي لمنع الانتكاس وتكرار الاكتئاب، ربط الباحثون الاكتئاب السابق بميل أكبر لإيقاف المعالجة الحسية عند مواجهة ضغوط عاطفية. ووجدوا أيضاً أن حجب الإحساس مرتبط بزيادة خطر الانتكاس الاكتئابي.
يقول فارب: نحن لا نحب الشعور بالأشياء السيئة، لكن لا نفكر حقاً في الآثار المترتبة على موازنة ارتياحنا قصير المدى مع صحتنا طويلة المدى. يشرح بحثنا سبب أهمية العمل للحفاظ على الشعور. إنه يضع الأساس لرؤية أن الضغط العاطفي يسلبنا بالفعل الإحساس - وللتخلص من التوتر، يجب على المرء مواجهة هذا التأثير المثبط.
الدراسة التي نُشرت مؤخراً في مجلة NeuroImage: Clinical، شارك في تأليفها كل من فارب وسيغال، جنباً إلى جنب مع طالب الدكتوراه فيليب ديسورمو، في قسم الدراسات العليا في العلوم النفسية السريرية في جامعة تي سكاربورو، والبروفيسور آدم أندرسون من جامعة كورنيل.
اشتملت الدراسة على 166 مشاركاً تعافوا من الاكتئاب لكنهم كانوا عرضة لنوبة مستقبلية. تم تقسيمهم إلى مجموعتين. على مدى ثمانية أسابيع، خضعت إحدى المجموعات للعلاج المعرفي مع التركيز على الرفاهية، بينما خضعت المجموعة الأخرى للعلاج المعرفي القائم على اليقظة.
يجمع العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية بين فنيات العلاج المعرفي التقليدية والثابت فاعليتها بالدليل واستراتيجيات اليقظة الذهنية من أجل مساعدة الأفراد في فهم وإدارة أفكارهم وانفعالاتهم، وصولاً إلى خفض مشاعر الضيق والتوتر والكرب والمشقة، وقد صيغ كمدخل لعلاج ومنع حدوث الاكتئاب المتكرر.
أما العلاج المعرفي الذي يركز على الرفاهية، فهو يهتم بتأمين التجارب الحسية (مثل الطعام والأشياء الحسية الأخرى) التي تحقق رفاهية الأفراد الخاضعين للعلاج.
بين جلسات العلاج المعرفي تم أيضاً قياس نشاط الدماغ لـ 85 مشاركاً من خلال فحص الرنين المغناطيسي الوظيفي أثناء مشاهدة أربعة مقاطع متتالية من البرامج التلفزيونية التي لا تنتج عادةً محفزاً عاطفياً كخط أساس - على سبيل المثال، عرض متعلق بنمط الحياة، بالإضافة إلى مقاطع من فيلم مشحون عاطفياً.
على مدار العامين التاليين، تابع الباحثون مع المشاركين كل شهرين.
يقول فارب إنه اكتشف وزملاؤه شيئاً رائعاً أثناء دراسة فحوصات الدماغ لأولئك الذين انتكسوا: كان لديهم ميل أكثر إلى "التوقف عن العمل" عند تعرضهم لمقاطع الفيديو المشحونة عاطفياً، حيث وجدوا أن أجزاء الدماغ التي تتحكم في الأحاسيس تغلق أكثر من أولئك الذين لم ينتكسوا. وجد الباحثون أيضاً أن أولئك الذين أبلغوا عن مشاعر حزن عالية أثناء مقاطع الفيلم لم يكونوا بالضرورة أكثر عرضة للانتكاس.
يتابع فارب: ما حدد بالفعل مستويات الاكتئاب لديهم، هو مدى ترافق ذلك الحزن مع توقف حسي. ويضيف أنه عندما تحجب أدمغتنا المعلومات الحسية أثناء الحالة المزاجية السلبية، لا يتبقى لنا سوى أفكارنا لفهم ما يحدث. في كثير من الأحيان، تفشل هذه الأفكار في تقديم رؤية أوسع لما يجري - وحجب الأحاسيس الجسدية، يحبس الناس في "غرفة صدى" لآرائهم السلبية.
يوضح فارب: أفكارنا موجودة لتوضيح الأمور حتى تتمكن من التمسك بها بمرور الوقت، ولا بأس بذلك طالما استمر الأشخاص في تحديثها - ولكن الشيء الذي يحدّثها هو أحاسيس جديدة.
يقول الباحثون إن النتائج التي توصلوا إليها تساعد في تفسير كيف تسبب مواقف الحياة اليومية السلبية - مثل التعرض للانتقاد في اجتماع عمل أو مشاحنة زوجية عادية - في انتكاسة لدى شخص تعافى من الاكتئاب.
يقول سيغال إن مثل هذه الأحداث التي تبدو بسيطة يمكن أن تثير مشاعر أعمق بعدم الكفاءة وانعدام القيمة لدى أولئك الذين لديهم تاريخ من الاكتئاب.
يقول سيغال: يرتبط هذا المزاج السلبي بأفكار عن أنفسهم، ويمكن أن يستمر بسهولة بمرور الوقت، ويمكن أن يشعر الشخص بالسوء، مضيفاً أن مثل هذه الأفكار غالباً ما تنتج أحاسيس جسدية. إذا قمع الشخص هذه الأحاسيس الجسدية، فإن أفكاره ستتحول إلى المزيد والمزيد من ردود الفعل الاكتئابية.
يرى فارب أن الدراسة يمكن أن تساعد الباحثين السريريين على إنشاء تقييمات جديدة حول التثبيط الحسي كعلامة خطر للاكتئاب. يمكن أن يساهم أيضاً في تطوير علاجات هادفة تساعد الأشخاص الذين يتعافون من الاكتئاب على أن يصبحوا أفضل في ملاحظة أحاسيسهم طوال اليوم، والتي بدورها يمكن أن تساعدهم على مواجهة الحالة المزاجية السلبية التي يمكن أن تغلق الإحساس وتدخل الشخص في ما يسمى "حبس" التفكير الاكتئابي.
يقول فارب: لا يتعين علينا الانتظار حتى يبدأ الشخص في التدهور حقاً، حيث يتطلب الأمر الكثير من الموارد والوقت والجهد لإخراجه من حالة الاكتئاب. يمكنك البدء في ملاحظة ما إذا كان الشخص قد بدأ في ملاءمة ملف تعريف الشخص الذي يتجنب المشاعر الحسية. يمكننا عندها البدء بمعالجته، قبل أن يتوقف الشخص عن الظهور للعمل أو رعاية أطفاله.
----