وُلد ديفيد هيوم في إدنبره باسكتلندا عام 1711، ولم تكن فلسفة وديانة عصره تقع موقع الرضى، فأحس برغبة جامحة في أن يشقّ لنفسه طريقاً جديداً يلتمس به الحق كما يرضيه، حينئذٍ كان في عامه الثامن عشر، فانغمس في التأمل حتى أقعده المرض، فكان لا بدّ له من تجربة مركب آخر، فدخل ميدان التجارة وكان مقصده مدينة برستل؛ لكن العمل التجاري لم يقع في نفسه موقعاً حسناً، فرحل إلى فرنسا لينصرف بجهده إلى دراسته وتأمله، فاختار مدينة لافليش للإقامة وكتابة رسالته الرئيسية كتاب (رسالة في الطبيعة البشرية) الذي ولد ميتاً.

أوى هيوم إلى الريف لائذاً بهدوئه من الخيبة التي أصابته، وأخذ يكتب مقالات في الأخلاق والسياسة، حتى أعد منها ما يصلح كتاباً، وقد لقي رواجاً حفزه إلى كتابة جزء ثانٍ من هذه المقالات، ويعتبر أول إنتاج أدبي ينتجه كاتب اسكتلندي فيجاوز به حدود إقليمه.

بدأ هيوم تنفيذ مشروعه الجديد (البحث في العقل البشري)، وقد كانت مادته في أساسها هي نفسها مادة الجزء الأول من الرسالة في الطبيعة البشرية، لكنه كان يختلف من حيث الأسلوب وجودة العرض. ثم أخرج كتابه (بحث في مبادئ الأخلاق)، ثم ألحقه بموضوع أطلق عليه اسم (محاورة)، وفي العام 1752 نشر (مناقشات سياسية) فكان لها أكبر الأثر في ذيوع اسمه واتساع شهرته[1].

ويرتبط اسم هيوم في تاريخ الأفكار بنقد مبدأ السببية وتفكيك فكرة الاقتران الضروري، ما شكل إسهاماً رئيسياً في تنامي الفلسفة الأمبيرية الإنكليزية وبلوغها أوجها. ويتوسل هيوم في عرض آرائه والدفاع عنها التحليل السيكولوجي النقدي للأفكار المجردة المستند إلى حصر إدراكات الذهن في صنفين (الانطباعات والأفكار)، والانطباع هو أكثر حياة في إدراكاتنا حين نسمع ونرى ونلمس ونحب ونكره ونرغب ونريد، أما الأفكار فليست سوى نسخ عن الانطباعات سواء كانت ذكريات عن انطباعات سابقة، أم استباقات للمخيلة عما سنحس به، فلا تبلغ أبداً قوة الانطباعات وحيويتها.

كما يقسم هيوم إدراكات الذهن جميعها إلى صنفين يتميزان باختلاف درجة القوة والحيوية، فالتي من نوع أقل قوة وحيوية تسمى أفكاراً أو (أيديات)، أما النوع الآخر فلا يزال يفتقر إلى تسمية في معظم اللغات، ويعتقد هيوم أن ذلك الأمر يعود لأن تسميتها أو ضمها تحت لفظ عام، لا يلزم إلا لأغراض فلسفية، لذلك أسماها (الانطباعات).

ويرى هيوم أن أفكارنا ليست سوى نسخ عن انطباعاتنا، فمن الممتنع أن نفكر بشيء لم يسبق لنا أن أحسسناه بحواسنا الخارجية أو الباطنية، وهذه الانطباعات هي قوية جداً ومحسوسة ولا تقبل اللبس، وتلقي ضوءاً كذلك على الأفكار المتناسبة معها[2].

الزهو والضعة

تُعتبر أهواء الزهو والضعة انطباعات بسيطة متناسقة، وهي كلمات ذات استعمال عام، والانطباعات التي تمثلها من أكثر الانطباعات عمومية. وعلى الرغم من تعارضهما المباشر، إلا أن الزهو والضعة يمتلكان الموضوع نفسه. ولا تقدر المتوالية المتصلة من الإدراكات والتي ندعوها النفس على الرغم من أنها الموضوع الدائم لهذين الهويين، أن تكون سببهما أو كافية وحدها لإثارتهما، كما أن الخاصية الأكثر تميزاً ووضوحاً للزهو والضعة هي التنوع العريض للمواضيع التي تحط عليها، إذ تعتبر كل الملكات القيمة للذهن أسباباً للزهو، لكن هذه الأهواء ليست محصورة بالذهن، بل يمتد مداها ليشمل الجسد أيضاً.

وعند فحص أسباب الزهو والضعة، سنجد أنها ليست أصلية على الرغم من أنها فطرية، وأنه من المحال أن يتلاءم كل واحد منها مع الأهواء بوساطة البنية الأولية والاشتراط الخاص بالطبيعة. ولقد وضع هيوم فرضية جديدة تبدو أنها معقولة من خلال عدة حالات واضحة، وهي أن المواضيع التي تلتصق بها الكيفيات، إما أن تكون أجزاء من أنفسنا، أو شيئاً ما متصلاً بنا عن قرب، وبالتالي فإن كيفيات أفعالنا وأساليبنا السيئة والجيدة تؤلف الفضيلة والرذيلة وتحدد سمتنا الشخصية؛ حيث لا شيء يشغل الأهواء بقوة أكثر منها، فجمال أو تشوه جسدنا أو بيوتنا أو عرباتنا أو أثاثنا، إما أن يجعلنا مغرورين أو متضعين، والكيفيات ذاتها عندما تنتقل إلى مواضيع لا تحمل لنا أي علاقة، فإنها لا تؤثر على أي من هذه الوجدانيات ولا حتى بالحد الأدنى. ويرى هيوم أنه ليس جمال الجسد وحده الذي يولد الزهو، بل قوته وشدته أيضاً، حيث إن الشدة هي نوع من القدرة[3].

كذلك يملك الزهو والضعة كيفيات أذهاننا وأجسادنا التي هي أنفسنا، ولقد تم الكشف بالتجربة عن وجود مواضيع أخرى تنتج هذه الوجدانيات، فالغرور يكون بالبيوت والحدائق والعربات، مثلما يكون بالجدارة والمآثر الشخصية. وعلى الرغم من أن هذه المصالح الخارجية بعيدة في ذواتها بعداً واسعاً عن الفكر أو الشخص، إلا أنها تؤثر بقدر كبير حتى على الهوى الذي يتوجه إلى الشخص أو الفكر بمثابة موضوعه النهائي. وهذا ما يحدث عندما تكتسب المواضيع الخارجية أي علاقة خاصة بأنفسنا وحدها، أو ترتبط أو تتصل بنا.

وتوجد بجانب الأسباب الأصلية للزهو والضعة (آراء الآخرين) وهي أسباب ثانوية ذات تأثير مكافئ على الوجدانيات كالسمعة والشخصية والاسم، وهي بواعث ذات أهمية وعلى قدر عظيم، وحتى الأسباب الأخرى مثل الفضيلة والجمال والثراء تصبح ذات تأثير قليل عندما لا تدعم بآراء الآخرين، فلا يوجد أي شخص على الإطلاق تم تقديره من قبل شخص آخر من أجل أي كيفية كانت لن تولد من ذاتها إذا كانت واقعية زهواً في الشخص المالك لها[4].

----

المراجع:

[1] ديفيد هيوم، زكي نجيب محمود، مؤسسة هنداوي 2021، ص 12- 13- 14- 16- 17- 18- 19.

[2] مبحث في الفاهمة البشرية، ديفيد هيوم، دار الفارابي 2008، ص 11- 12- 38- 93- 94.

[3] رسالة في الطبيعة الإنسانية، الجزء الثاني، ديفيد هيوم، الهيئة العامة السورية للكتاب 2008، ص 75- 76- 79- 84- 85- 100.

[4] المرجع السابق ص 103- 115- 118.