في رواية "باستت" الحائزة على جائزة حنا مينه الثانية للرواية، يقدم لنا الكاتب د. جرجس حوراني هذا المكان لصاحبه كارو، الهاجس بمسح غمامة الكآبة والحزن عن أرواح زوار الملهى الصاخب على إيقاع مشروب سحري وموسيقا تحول المكان إلى واحة من فرح.

ربما نكون جميعاً بحاجة إلى مكان دافئ نركل فيه همومنا وأوجاعنا الروحية إلى أقصى زاوية من دهاليز النسيان، ونطلب ساعة من الفرح تسرقنا مما نحن فيه.

بحث كارو طويلاً حتى اهتدى لهذا الاسم "باستت"، ويعني في الميثيولوجيا المصرية "ربة الحب والخصب والفرح"، كما أوضح له أستاذ الفلسفة راتب ذات مرة وهو في قمة رغبته باسم مختلف، ومن يدخل إلى مملكته هذه لا يقبل منه سوى الانسجام مع ما تسعى إليه وذلك عبر عملية نفسية تبدأ بالاستماع إلى حكايته، أو جره جراً ليقص ما يعاني. وبعد هذا التفريغ النفسي، كما لو أنه على سرير طبيب نفسي بأدواته الخاصة هنا، يدخل الزائر عوالم المكان وينتشي ويرقص كريشة تحلق في فضاء المكان.

يقيم الكاتب بناءه الفني للعمل على ثابتين هما: المكان وصاحبه كارو، الذي خبر الحياة من خلال تجاربه الكثيرة والجارحة، فقد كان مهرباً حول مهنته إلى تهريب الفرح للناس في ظل واقع معاش تحت الكثير من المشكلات الاجتماعية والإنسانية، وفي ظل معاناة من الواقع خلال سنوات أليمة مرت على الجميع.

في سردية العمل، يتحول المكان إلى مسرح وشاهد على أفراد تعاني أرواحهم من عطب متعدد الوجوه، ليتابع القارئ حكايات ينقله الحوار والبوح ببساطة تشبه المكان نفسه، ولا نجد تركيزاً على الوصف الخارجي للشخصيات إلا في الحدود الدنيا وبما تقتضي ضرورة الإضاءة على هذا الجانب بالشكل الذي يخدم الحكاية نفسها.

الاستاذ راتب مدمن على هذا المكان ويجد فيه ملاذاً آمناً لروحه، حتى إنه يقنع الأستاذ حليم وهو المتحفظ والمتمسك بتقاليد اجتماعية، ليدخل عالم باستت ويكتشف فيه روحاً تحلق به وهو يرقص مع فاتنة المسرح متخلياً عن صورته الرتيبة وقناعاته الثابتة. والراقصة نفسها كانت قد درست الأدب الإنكليزي لكنها هنا تحولت إلى فراشة في عالم واسع.

"وجد باستت ليكون مقراً للفرح، واللهو، والطرب، والنسيان. لهذا وضع الحجر فوق الحجر. هكذا أعلن كارو أكثر من مرة، وأكد أنه من غير المسموح مناقشة أي شيء يعكر سماء باستت".

شخصيات متنوعة في مشاربها وثقافاتها ومعتقداتها تمر على باستت طلباً للنسيان والفرح، كما لو أنه مكان للعلاج النفسي، فقد أرهقت الحياة الكثيرين في تفاصيلها الضاغطة على أرواحهم، فهذا الدكتور يقول: "جئت إلى هنا لأصبح موظفاً يطرد الألم لا يعمقه". وهذا رجل غريب يروي حكايته مع أخيه الذي توقف ليقل رجلاً في الطريق لكن هذا الأخير قتله بغية السرقة، لكنه لم يجد سوى ثلاثين ألف ليرة. وحكاية أبي صبح الذي خسر ابنه بعد معارضته لقطع الشجر فحرسها وحاول حمايتها، لكنه انتهى مقتولاً وتحول إلى شجرة أكاسيا يتعرض للأذى كل من يحاول قطعها.

مشاهد قصيرة ومتعددة، لكنها غنية بدلالاتها يتابعها القارئ على رادار وشاشة باستت، تقدم أرواح أصحابها في لحظة مكاشفة جارحة، وتعكس في مجملها وتلاحقها شريطاً لحياة مجتمع بأكمله، شريطاً معنياً بقسوة الحكاية وأثرها والبحث عن ملاذ لنسيانها في مكان يحتفل بالفرح.

مكان اختاره العم كارو بعناية شديدة، كما اختار واجهته البلورية الصافية لتحقيق أكثر من غرض "فالجالس في المكان يطلق لعينيه العنان، فيرى مسافات شاسعة تشعره بالحرية، وعابرو الطريق يمكنهم أن يروا قطرات الفرح المتكاثفة كالبخار عليها، فتطرب قلوبهم وتتفتح مسامات خلاياهم، ومن يدري كم من الوقت قد جافاهم الفرح؟".

المكان بصفته مسرح الحكاية، وصاحبه كارو ثابتان في جسر الحكايات، التي يمكن لكل واحدة منها أن تنفرد بذاتها، لكن حضور كارو بمثابة الخيط الذي يشكل نقطة وصل وقطع بين القصص وأصحابها، بتداخلاته وآرائه، ودفعه للزوار باتجاه دوائر الفرح التي تميز المكان، يربط التفاصيل بطريقة غير مباشرة ليجعل العمل بكليته رواية لعابرين كما لو أن هناك أكثر من راو، لكن تبقى لغة السرد أو القص ذات نسق واحد من حيث الاستخدام الذي حرص الكاتب على تقديمه بإطار جامع لغوياً وإنسانياً، رغم تعبيره عن التعدد إنما في ظل المشترك العام بين الجميع.

حشد هذا الكم من القصص ربما يعود بذاكرة القارئ وذائقته إلى ما عرفنا في أدبنا من سرديات قديمة تأخذ بعناق بعضها بغية الوصول إلى نهايات غواياتها وغاياتها في آن معاً.

عمل يمتلك الكثير من المفردات الفنية الماتعة على صعيد القص واللغة والبساطة في مقاربة الحدوتة؛ بحيث تصب جميع السواقي الفرعية في نهر كبير هو الحياة نفسها التي يعيش كارو وهم صنع الفرح للجميع.

----

الكتاب: باستت

الكاتب: د.جرجس حوراني

الناشر: وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب