يبيّن الكاتب فريدريك لونوار في كتابه "قوة الفرح" أنه عادة ما يتم الخلط بين اللذة والسعادة، فنسعى أكثر وراء اللذات الآنية والزائلة أكثر مما نسعى لنيل سعادة حقيقية ودائمة، لكن هناك حالة ثالثة تُضاف إلى اللذة والسعادة وقليلاً ما يتم ذكرها، في حين أنها تمثل مصدراً للرضا الكبير في الحياة وهي حالة الفرح.

درس فلاسفة العصور القديمة اللذة والسعادة كثيراً، لكنهم لم يفعلوا ذلك مع مسألة الفرح، وهذا يرجع بحسب الكاتب لونوار إلى طبيعة الفرح اللاعقلانية، والتي تخرج عن نطاق أي سيطرة ممكنة عليه، فاللذة قابلة للتنظيم، أما الفرح فهو نتيجة للاشتغال على النفس لمعنى يُمنح لحياة الفرد ولالتزامات تترتب على هذا المعنى، فالفرح له جانبه المجاني غير المتوقع.

ولطالما أقرّ أفلاطون وأرسطو وأبيقور بالجانب الإيجابي للفرح، لكنهم كرّسوا تأملاتهم الفكرية للسعادة، والأمر ذاته حصل في الهند عند مؤلفي الأوبانيشاد ومن بعدهم بوذا، لكنهم حتى وإن لم يُركزوا في تأملاتهم على مسألة الفرح، فقد عنوا بالفرح المطلق الذي يتحقق بالخلاص من الجهل، وبتجربة الاستنارة والتيقظ، أما الفرح فقد كان ممثلاً بشكل أكبر في الصين عند مؤسسي الفلسفة الطاوية لاو تسو وتشوانج تسو، كما كان للفرح حضوره في الكتاب المقدس خصوصاً الإنجيل. وفي القرن السادس عشر اعتُبر المفكر الفرنسي ميشيل مونتاني أول فلاسفة الحياة السعيدة في العصر الحديث، وبعد قرن من الزمن كان هذا الحدس الفلسفي حاضراً في قلب التأملات الفكرية لـباروخ سبينوزا فيلسوف السعادة بامتياز، وهو أول من قدم تعريفاً فلسفياً له؛ حيث قال بأنه الكمال ويزيد من إمكانية الوجود.

وبعد قرنين من سبينوزا جاء فريدريك نيتشه، ليعتبر الفرح المعيار الأخلاقي الأساسي الذي يُضفي شرعية على العقل البشري، واعتبره حالة تنبع من داخل الإنسان، وموجود في قلبه طالما كان حيّاً. وبالنسبة إليه فالفرح هو القوة وكل ما من شأنه أن يزيد من قوتنا الحيوية، كما أنه ينمو عبر الاشتغال على الذات، كنوع من العلاج الشخصي يرافق عملية الاستبطان أو التأمل الذاتي، ليس لقمع الغرائز، ولكن لتأكيد كل ما من شأنه أن يقودنا صوب الحياة.

ثم جاء المفكر الفرنسي والمعروف بفيلسوف الحياة هنري برجسون، والذي يرى أن اللذة ليست إلا حيلة ابتكرتها الطبيعة لكي يحافظ المرء على وجوده، في حين يعلن الفرح دائماً أن الحياة قد نجحت، وأن ثمة تقدماً يتحقق فيها، وأنها حققت انتصاراً ما، فلكل فرح كبير نبرة انتصارية. وبيّن الكاتب لونوار أن الفرح الكامل ليس مكافأة نحصل عليها في مسابقة، إنما هو نعمة تصاحبنا طوال طريق الحرية والحب الذي نقصده بهدف التيقظ والاستنارة.

وبدوره يشير الفيلسوف كليمون روسيه إلى أن الفرح الدائم يجد جوهره في الفرح بالحياة وفيه فقط، فالفرح مصاحب لحب الحياة، وهو قبول المصير على نحو تام، وقبول كل ما لا يمكن تغييره، ويكمن الفرح الكامل في النعم المقدسة الكبيرة، وفي قوة الرضا، وقبول ضروب معاناة الحياة، وهذا أيضاً ما يشرحه جبران خليل جبران في كتابه "النبي" عندما قال: "فرحك هو حزنك بلا قناع، والبئر التي تطفح بضحكك لطالما فاضت بدمعك، فكلما زاد الحزن حفراً في كيانك، زاد الفرح الذي يحرزه الكيان". وهو ما أكده عالم اللاهوت البروتستانتي ليتا باسيه في كتابه "الفرح المنيع" عندما قال: "الذين يزرعون بالدمع يحصدون بالابتهاج".

وبالنسبة إلى لونوار، فإن فرح الحياة قابل للتشارك، كما أنه يدعو إلى التعاطف والتقاسم والتآزر، والفرح يحمس قلبنا بالرغبة في رؤية الآخرين وهم ينمون ويزدهرون، ويجعلنا أكثر انفتاحاً وجرأة وشجاعة وتسامحاً وانشغالاً بالآخر، فحكمة الفرح لا تحمل أي إجابة نظرية عن مسألة الشر، لكنها تقدم إجابة تطبيقية عبر عدوى تنقل حباً متأججاً للحياة، والتزام تجاه كل الكائنات الحية.

----

الكتاب: قوة الفرح

الكاتب: فريدريك لونوار

ترجمة: أيمن عبد الهادي

الناشر: دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت 2017