لطالما دُعي جان بول سارتر بفيلسوف الحرية، وهو نفسه قال: "إن كل ما حاولت أن أكتبه أو أفعله في حياتي كان المقصود به التشديد على أهمية الحرية". ومن الواضح أن هذا قابل للانطباق على النهج الذي مارس به حياته الممتدة والملتزمة سياسياً على نحو بالغ، ويصدق على صعيد محتوى فلسفته.

وُلد سارتر في باريس عام 1905، حيث التحق عام 1911 بإحدى مدارس الليسيه، وفي العام 1922 أنهى مرحلة البكالوريا ليدخل بعدئذٍ المعهد العالي للتربية التابع للسوربون، لكنه أخفق في نيل إجازة التدريس (أجريجاسيون) في المرة الأولى، ليحوزها في السنة التالية 1929 بأعلى الدرجات، واشتغل بعدئذٍ بتدريس الفلسفة في إحدى مدارس الليسيه بمدينة لي هافر الفرنسية، ثم لاحقاً حرر دوريات وصحفاً، وشارك في حركات واحتجاجات سياسية، وكانت له جلسات في المقاهي الباريسية وقد اختلف فيها حديثه مع غيره من الأعلام والرواد في الفنون والأدب والفلسفة والسياسة، كذلك رفض ألواناً من التكريم من بينها جائزة نوبل في الأدب، كما عقد مؤتمرات صحفية وأجريت معه حوارات تلفزيونية وصحفية، وألقى محاضرات في جميع أنحاء العالم].

الانفعال وتغيير العالم

يرى سارتر أن نظرية الانفعال الذي هو سلوك هي نظرية لا شائبة فيها، لكننا نرى نقصها في نقائها وكمالها بالذات، كما أنه لا سبيل إلى إنكار الدور الوظيفي للانفعال، بيد أن هذا الدور غير مفهوم من حيث هو كذلك. ويوضح سارتر أن أصحاب سيكولوجيا الصيغ يفسرون الانتقال من حالة البحث إلى حالة الغضب باختفاء صيغة وبتكوّن صيغة أخرى، لكن كيف يمكن الاعتراف بظهور صيغة؟ ويجيب بأنه لا شك أنها تظهر بوصفها بديلاً عن الأولى، وهي لا توجد إلا بالنسبة إلى الأولى. إذاً ثمة عملية واحدة هي عملية تحويل الصيغ، لكن لا يمكن فهم هذا التحول إن لم يوضع الشعور بادئ ذي بدء، فهو وحده القادر على وضع حد للصيغ وتكوينها بلا انقطاع، ووحده الذي يستطيع تفسير غائية الانفعال، وهذه الغائية ندركها بصورة ملموسة ومحسوسة حين نفحص السلوك الانفعالي فحصاً موضوعياً، وبمجرد النظر في الوقائع يؤدي بنا حدث تجريبي للمعنى الغائي للانفعال، وإذا أردنا تثبيت ماهية الانفعال في حدث كامل بوصفه واقعة اجتماعية، وجدنا هذه الغائية متضمنة في بنيانه.

والانفعال عند سارتر هو تغيير العالم، وعندما يصعب السير في الطرق المرسومة أو عندما لا نرى الطريق، يستحيل علينا المكوث في عالم بهذا الإلحاح وهذه الصعوبة، لذلك يتعين علينا العمل ومحاولة تغيير العالم، أي أن نحياه كما لو لم تكن العلاقات بين الأشياء وإمكانياتها خاضعة لعمليات حتمية، بل خاضعة للسحر، وهذه المحاولة ليست شعورية، بل هي إدراك لروابط جديدة ومطالب جديدة، ولما كان إدراك الموضوع محالاً أو مثيراً لتوتر، فإن الشعور يدركه أو يعمل على إدراكه على نحو آخر، أي أنه يغير نفسه لكي يغير الموضوع[2].

الحرية

يعتبر سارتر الكينونة واللاكينونة كالظل والنور، مكونين متكاملين للواقع، إنهما فكرتان متزامنتان تماماً تتحدان ببعضهما لتكوين الموجودات، بحيث يصبح هناك لا جدوى من مقاربة كل واحدة منهما بمعزل عن الأخرى. ويرى أنه يمكن اعتبارهما بالمقدار نفسه مكونين ضروريين للواقع لكن دون جعل الكينونة تمر في العدم، حيث سيتم التركيز على صراع القوى المتبادل بين الكينونة واللاكينونة، بحيث يكون الواقع بشكل من الأشكال توتراً ناتجاً عن هذه القوى المتناحرة.

ولقد أعطى ديكارت بعد الرواقيين لإمكانية الواقع الإنساني في خلق العدم الذي يعزله اسم الحرية، وهنا يتساءل سارتر: ماذا يجب أن تكون الحرية الإنسانية إذا كان ينبغي أن يأتي العدم بواسطتها إلى العالم؟ ويبين أن الحرية ليست إحدى ملكات النفس الإنسانية التي يمكن مقاربتها ووصفها بمعزل عن غيرها، ويقول: "إن ما نحاول تحديده إنما هو كينونة الإنسان من حيث هي شرط لظهور العدم، وقد بدا لنا أن هذه الكينونة هي حرية، فالحرية من حيث كونها شرطاً ضرورياً لتعديم العدم ليست إحدى خصائص ماهية الكائن الإنساني، وهي تسبق ماهية الإنسان وتجعلها ممكنة، وإن ماهية الكائن الإنساني هي في وضع معلق بحريته، فمن المستحيل أن نميز ما ندعوه حرية عن كينونة الإنسان وكونه حراً".

والإنسان حر لأنه ليس ذاتاً بل حضور تجاه الذات، إن الكائن هو ما هو عليه ولا يمكن أن يكون حراً، الحرية هي تحديداً ذلك العدم الذي هو ما قد كان في صميم الإنسان، والذي يلزم الواقع الإنساني أن يكون ذاته بدلاً من أن يكون، وبالنسبة إلى الواقع الإنساني أن يكون يعني أن يختار ذاته، والحرية ليست كائناً إنها كينونة الإنسان، أي هي عدم في كينونته.

لقد استوحى سارتر من منهج التحليل النفسي أن كل فعل مهما كان تافهاً ليس مجرد نتيجة لحالة نفسية سابقة، ولا ينتج عن حتمية أفقية، بل بالعكس، إنه يندمج كبنية ثانوية في بنى شاملة، وأخيراً في الكل الشامل الذي أشكله أنا، وإلا سيتوجب علينا بالفعل أن نفهم ذاتنا كتيار أفقي من الظواهر، بحيث أن كل ظاهرة تحددها بشكل خارجي سابقتها كشرط لها، وإما أن نفهم ذاتنا كجوهر يتحمل جريان أحواله الخالي من المعنى[3].

التحليل النفسي الوجودي

يرى سارتر أنه لا بد من فينومينولوجيا أنطولوجية لإثبات الحقيقة الإنسانية للشخص، ولا بدّ أن تشكل مصطلحات الرغبة الأمبيريقية موضوعاً لأبحاث فحص سيكولوجية وكشف معاني هذه المصطلحات، ولا يمكن القيام بهذا البحث إلا وفقاً لقواعد منهج مختص وهو ما دعاه (التحليل النفسي الوجودي)، حيث يهدف إلى كشف معاني التصرفات الأمبيريقية لدى الإنسان، بمعنى تسليط الضوء على ما يعبر عنه كل سلوك وتثبيته عبر المفاهيم.

والمبدأ الذي يرتكز عليه التحليل النفسي الوجودي يقوم على أن الإنسان كل شامل وليس مجموعة مكونات، وفي النتيجة فهو يعبر عن نفسه كلياً، ويتجلى بأكمله في التصرفات الأكثر تفاهة وسطحية، وليس هناك ميل أو لازمة عصبية أو فعل إنساني لا يكشف هذا الكل[4].

المراجع:

[1] جان بول سارتر، كاثرين موريس، آفاق للنشر والتوزيع 2011، ص 19- 25- 26.

[2] نظرية في الانفعالات، جان بول سارتر، مكتبة الأسرة 2001، ص 55- 56- 57- 70.

[3] الكينونة والعدم بحث في الأنطولوجيا الفينومينولوجية، جان بول سارتر، المنظمة العربية للترجمة 2009، ص 59- 64- 74- 567- 588.

[4] المرجع السابق ص 716- 717.