لا يزال الحديث في فلسفة الميتافيزيقا موضع جدل بين الكتاب والفلاسفة. وتنعكس صورة العصر على أقلام الكتاب والمفكرين بإحـدى طريقتين؛ إما أن يصوروا واقع الحياة من حولهم تصويراً أميناً، بحيث يبدو على صفحات كتبهم وجه الحياة القاتمة كما هو بملامحه ومعالمه وقسماته ولمحاته، أو أن يصوروا هذا الواقع بالثورة عليه ومحاولة قلب أوضاعه.

يؤكد الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "موقف من الميتافيزيقيا"، أنه لا ترى وجه الحياة كما هي، بل يستدل استدلالاً من الصورة الكاملة التي خلقها صاحب الفكرة، ليصلح بالكمال الذي رسمه بقلمه، لأن الصورة لا تصور الشبيه بشبيهه، بل تدل على الشيء بالإشارة إلى نقيضه، فلو كان الناس يعيشون مثلاً في عصر تسوده القسوة والشدة والعنف، كان الأرجح أن يكتب بعض المفكرين داعين إلى اصطناع الرحمة والرفق والتسامح، وإن كانوا يحيون في عصر يسوده التراخي وميوعة العواطف، فالأرجح كذلك أن يجيء تفكير المفكرين في جملته أميل إلى دعوة الناس إلى شيء من التماسك والصلابة والشدة. ومن قبيل ذلك انزلق قوم مع نعومة الإيمان الساذج وطراوته، وظهر المفكر الذي يدعوهم إلى التشكك والتعقل كما فعل "ديكارت" في عصره. وكذلك إن غلا القوم في تقييد أنفسهم بشكائم العقل ومنطقه، ظهر المفكر الذي يثير فيهم الوجدان الشاعر، والقلب النابض الحساس، كما فعل روسو راداً على فعل فولتير وتابعيه.

ونوه الكاتب إلى أن هذا العصر يسوده استهتار عجيب في كل شيء، ولكن الأهم في نواحي الحياة التفكير والتعبير، فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالاً غير مسؤول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أدنى الشعور بأنه مطالب أمام نفسـه وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سنداً من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي فلو كان هذا الارتجال، الحر الطليق من قيود الواقع وشكائمه، مقصوراً على جوانب هينة يسيرة من حياتنا، لما كان الأمر بحاجة إلى جهد يبذل، لكنه ارتجال اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها، فالاقتصادي يصدر في مشروعاته عن غير إحصاء وأرقام، وهذه كلها في حقيقة الأمر فروع تفرعت عن مشكلة أعم وأضخم، هي مشكلة الأخلاق التي أحاطت بحياتنا الفردية والاجتماعية من جميع جهاتها، فتراها بادية في مظاهر لا تخطئها العين المسرعة العابرة. وهل من سبيل أمام الرائي أن تخطئ عينه هذا الاستخفاف الشامل، الذي رفع عن كواهل الناس كل شعور بالتبعة فيما يقولون وما يفعلون؟ حتى أصبح المتعقب للحق على عسر الطريق ومشقته، هو الحقيق منا بالسخرية والضحك.

وأوضح الكاتب د. زكي نجيب محمود إذا كانت الميتافيزيقا هدف النقد والهدم، فما ذلك إلا لنضع منوالاً أمام القارئ ينسج عليه عباراته، ومقياساً يميز به ما يصلح أن يكون قولاً علمياً مقبولاً وما لا يصلح. وهنا الشروط تضيق بمجال القول، لكن ما حيلتنا إن كان القول الصادق لا يجاوز هذا المجال الضيق الضئيل؟ في الكتاب صفحات لم تكتب للتسلية واللهو، وإن صادف دراسته شيئاً من العسر والمشقة، وبخاصة في الفصول التي تناولت فن التحليل الفلسفي، وهي الفصول الثلاثة الأخيرة، فأملي أن يجد بعد ذلك جزاء ما تكبد من مشقة وعسر، وجزاؤه هو أن يلم بطرف رئيسي هام من التفكير الفلسفي المعاصر، عله يشارك أصحاب الفكر في عصره تفكيرهم، وتلك هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها أمام الإنسان ليحيا في العصر الذي أراد له الله أن يعيش فيه.

أقسام وفصول

يؤكد الكاتب د. زكي نجيب محمود في الفصل الأول عرضاً وتأييداً للفكرة القائلة بأنه لا يجوز للفيلسوف أن يقول جملة واحدة يحاول بها أن يصف الكون أو أي جزء منه، وكل مهمته أن يحلل العبارات التي يقولها العلماء في أبحاثهم العلمية والناس في حياتهم اليومية، تحليلاً يبين مكنون هذه العبارات حتى نطمئن جميعاً إلى سلامة ما يقال، إذ هي مهزلة المهازل أن يجلس الفيلسوف على كرسيه في عقر داره مسنداً رأسه على راحتيه، زاعماً لنا ولنفسه أنه يفكر في حقيقة العالم، كأنما العلماء أمام مخابرهم وموازينهم ومقاييسهم يلهون ويعبثون ولا يبحثون عن حقيقة العالم بحثاً هو أجدى على الناس من ألف رسالة فلسفية.

وفي الفصل الثاني بحث في الفلسفة النقدية عند "كانط". وفي الفصل الثالث تحديد للميتافيزيقا بالمعنى الذي ترفضه، وقد حددناها بأنها مجموعة العبارات التي تحتوى على كلمات لا ترمز إلى شيء مما تقع عليـه حواس الإنسان فعلاً أو إمكاناً، ويجيء بعد ذلك الفصل الرابع على سبيل التطبيق، وهو خاص بالبحث في الجمل التي يعبر بها قائلوها عن "القيم" الأخلاقية والجمالية.

----

الكتاب: موقف من الميتافيزيقا

الكاتب: د. زكي نجيب محمود

دار النشر : دار الشروق