يبين المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "فلسفة التاريخ" أن قدماء المؤرخين كانوا قليلي الاكتراث لصحة الحوادث، وقد كان شأنهم مقتصراً على استنساخ ما يسمعون من أقاصيص تتألف من ذكريات باقية في ذاكرة الناس والتاريخ. ولم تبدُ أولى الكتب عن تاريخ روما وأثينا أكثر دقة، كذلك الأحاديث عن الأزمنة التي عقبت تلك ليست أكثر صحة في الغالب.

لقد عدّ أصلح مؤرخي الرومان مثل "تاسيت" التاريخ فناً يجب أن يُزين الكاتب، والتاريخ خاصة هو عند هذا الأخير عمل الخطيب، وقد كان هؤلاء المؤرخون يعالجونه كخطباء، فكانت الأقاصيص الوهمية تؤلف استناداً إلى بضع قطع من الحقيقة تجمع مصادفة وإلى كثير من الخيال، فتعدها الأجيال صحيحة بقوة التكرار، ولم ينقضِ مبدأ التاريخ الروائي بانقضاء قدماء المؤرخين وقد ظلّ باقياً قوياً حتى أيامنا.

لقد جعل الأغارقة الآلهة تتدخل في أعمال البشرية بلا انقطاع، وتدل الكتب التاريخية التي أُلفت في ذلك الزمن الطويل، على درجة ما يمكن للعوامل التاريخية أن تؤثر في أفكار الناس، لقد كانت تسيطر على مجرى التاريخ قدرة ربانية عاطفية أو ساخطة، وكان لا بدّ من خشيتها أو التضرع إليها بلا انقطاع، وإلى وقت قريب كان على هذا الاعتقاد فلاسفة فضلاء. كما أن هذا الاعتقاد ساق ليبنتز إلى أفكار كثيرة التفاؤل، فكان يقول "إن العالم بالغ الصلاح بحكم الضرورة، وذلك لأنه لا حدّ لحكمة الرب وكرمه". يقول العلم إن جميع حوادث العالم خاضعة لسنن وثيقة لا تعرف الهوى. ولذلك وجب اكتشاف مبادئ أخرى لإيضاح مجرى الحوادث، وهذا ما نشأ عنه ما يسمى "مبدأ التاريخ الفلسفي".

ويبين لوبون أن الأمم تتطور تطوراً يلائم الضرورات التي توجبها الأحوال، وعندما يُصبح مزاجها شديد المحافظة فيَحول دون تطورها بسرعة كافية، لا تتم الملاءمة الضرورية إلا بثورة عنيفة، لكن الثورات لا تستطيع مسّ الحال الماضية، فإن هذا الماضي لا يلبثُ أن يسترد نفوذه.

وكان من الطبيعي أن تبدو شروط العيش المادية التي تخضع لها المجتمعات، بين العوامل التي تُعين تطور هذه المجتمعات، وكان من الطبيعي كذلك أن تختلف أساليب العيش باختلاف الأمم الصائدة والزارعة والتاجرة و....الخ، وهذا الأمر انتفع به في وضع المذهب المنعوت بالمادية التاريخية لقيامه على تفسير التاريخ تفسيراً اقتصادياً حصراً. وقد أكد صانعو هذا المذهب أن حوادث التاريخ المهمة تُشتق من النظام الاقتصادي، فالحياة الاقتصادية تُفسر الحياة السياسية والأفكار والمعتقدات. لذلك كان من الطبيعي أن تظهر الأحوال الاقتصادية والتي يُعلق مذهب المادية التاريخية أهمية كبيرة عليها بين علل تطور الأمم، لكن من المستبعد أن تكون أهمها.

ويوضح المؤرخ في كتابه أن المجتمعات الحديثة مؤلفة من تنضد عالمين مختلفين تماماً، عالم العلم الذي يهيمن عليه الذكاء، وعالم الحياة الاجتماعية الذي يوجه بمشاعر يتألف منها الخلق، وتنبجس الاختراعات التي تحول ناحية الحضارات المادية من عالم العلم الذي يوجهه صفوة الأذكياء، وتنشأ المنازعات والأحقاد التي يضطرب بها تقدم الأمم غالباً وتهدد بالقضاء عليها عن العالم الاجتماعي. وتتجلى إحدى مشاكل الزمن الحديث في الاختلاف الزائد بين نشوء الذكاء بسرعة وتطور المشاعر والأخلاق ببطء. وقد كان لاتباع الذكاء للمشاعر نتائج كبيرة في التاريخ دائماً، فقد تكون المشاعر في الإنسانية العليا خادمة للذكاء، لكن الذكاء في إنسانيتنا الناقصة التطور هو الذي يظل خاضعاً للمشاعر.

دلّت مباحث علم النفس الحديثة على تأصل أوهام محترفي السياسة حول قدرة العدد المفروضة، وقد أثبتت هذه المباحث كون آراء الجماعات خالية من مستند عقلي، فالإنسان في الجماعة يرجع إلى همجية ما قبل التاريخ، ولا يؤثر في الجماعات إلا بمخاطبة مشاعرها، وإذ تعجز عن الإدراك فإنها لا تلتمسه، وإذا صار الفرد جزءاً من جمع نال قدرة قاهرة تغنيه عن التأمل والتعقل قبل السير، فضعيفو الذكاء من الأفراد إذا ما تجمعوا نالوا قدرة مؤقتة لكنها عظيمة جداً، ولم يُعرف انحطاط الجماعات النفسي إلا منذ أبحاث علم النفس الحديث، لكن مؤرخي الماضي جهلوا هذا الانحطاط على العموم.

لقد اختلفت العوامل التي وجهت نشاط الأمم في مختلف أدوار تاريخها، فكانت حربية حيناً ودينية أو سياسية حيناً آخر، وبين هذه العوامل المختلفة التي أثرت في مختلف مراحل التاريخ مثلت العوامل الاقتصادية دوراً لم تزل أهميته تعظم، وقد بلغت هذه العوامل الاقتصادية من النفوذ ما جعل أنصار المذهب المعروف بالمادية التاريخية جوهر جميع الحضارات، كما أن الشأن الحديث للعوامل الاقتصادية مدين لاكتشافات العلم التي غيرت شروط الحياة تغييراً تاماً.

في هذه الأيام أبصر العالم ظهوره من قوى جديدة حول شروط حياة الناس واحتياجاتهم ومشاعرهم وأفكارهم تحويلاً تاماً، كما أن العالم كله يجاوز دوراً من أسوأ أدوار تاريخه الطويل وأكثرها نوراً في آن معاً.

----

الكتاب: فلسفة التاريخ

الكاتب: غوستاف لوبون

ترجمة: عادل زعيتر

الناشر: مؤسسة هنداوي، 2020