في مجموعته القصصية "في ارتطام الروح"، يأخذنا القاص محمد باقي محمد إلى عوالم تنبش في وجع الروح عبر حكايات تمزج بين الواقع والخيال بلغة تسعى لاستنفاد طاقتها في توظيف قدرتها الإيحائية والفنية لخدمة الحدث والشخصيات، في سياق تصاعدي عبر أحداث تفرض قسوتها الواقعية المفتوحة على أفاق إنسانية صارخة.

في القصة الأولى التي حملت عنوان المجموعة، يروي حكاية أم انتظرت ابنها طويلاً حتى يأتيها خبر استشهاده عبر مجموعة من رفاقه من الجنود، وهي التي كانت تعد للفرح به، فتدخل في حالة من الاستغراق في طبيعة الحدث الذي يدفعها على رفض المساعدة في الإشراف على تفاصيل دفن الشهيد كلها بروح مشفوعة بهالة من الغياب والحضور أمام المشهد الوداعي الأخير.

يلجأ الكاتب إلى أسلوبين في القص؛ حيث يترك مساحة لأنا الشهيد لاسترجاع لحظاته الإنسانية منذ التحاقه بالخدمة حتى اللحظات الأخيرة قبل الدخول في غيابه حين "بدأت الموجودات تتلاشى من حولي"، في الوقت الذي يسرد الراوي باقي الحكاية من موقعه، لنكون أمام تداخل بين صوتين وحالتين عبر كل منهما عن رؤية خاصة في سياق الروي.

في قصته الثانية "القندريس البري"، يذهب القاص إلى حكاية معلم يعيش معاناة حياتية صعبة، وهو ما يعرفه القارئ من حياته الواقعية التي تتبدى صورتها في هذا الوصف "ثم جال بعينيه في موجودات الغرفة، الجدران كانت قد تخلت عن الطلاء في غير موضع، فبدت كالحة، تبعث على الكآبة، ناهيك عن أنها كانت عارية"، ويضيف "فوقها تربعت صورة باهتة، صورة قديمة بالأبيض والأسود ما عادت تشبهه في شيء بسبب من تصرم السنين".

فجأة تلفت نظر المعلم صورة لشاب ألقي القبض عليه بتهمة السرقة، ليكتشف أن اللص كان طالباً عنده وكان كسولاً عامله بقسوة، ما دفع الولد إلى هجران المدرسة، ليقع الأستاذ فريسة الشعور بالذنب. من هنا تتسع دلالة العنوان "القندريس البري"، وهو زهر شوكي من فصيلة الصباريات التي تحوي في داخلها ثمرة شهية.

بلغة مشوبة بكثير من الحنين إلى الماضي، تأتي قصة "لمقام النوى" وحكاية رجل سجنته "قيمه الاجتماعية المتزمتة" التي يعيشها لتقف حائلاً بينه وبين البوح للمرأة التي أحب في بلاد الغربة، فظلت كوشم موجع في الذاكرة، وعندما يلتقي بها بعد سنين طويلة بالصدفة يعجز عن البوح مرة ثانية، ويمضي على عكازة العمر خاسراً من جديد ذلك التوق للانعتاق والحياة والحب الذي ما زالت آثاره تموج في روحه وتثقل عليه بجرح جديد.

تقارب لغة القص حالة العراء الإنساني والروحي الذي وصل إليه "ولأنه لم يعد ثمة ما يقال، وقف في منتصف المسافة كحصان أشهب أجرب وعجوز، وعلى نحو ما بدت أكثر انحناء وهرماً وجزناً، وعلى نحو ما بدا عارياً كشجرة مستوحشة فاجأها الخريف منتصف المسافة"، لتنتهي الحكاية بخيبة جديدة بسبب من التردد والخوف والعجز المستوطن في روحه.

"أرمنوهي" حكاية قاسية في مشهديتها الفنية والواقعية، تستعيد صورة الرعب الذي ضرب أرمينيا والمجزرة الكبرى التي ارتكبت بحق الإنسان فيها، فالشاب أرشال يهرب مع أخته أرمنوهي من كوابيس الدم والقتل والاغتصاب "تلك السيناريوهات التي كانت ترسم بغبطة ترافقت بضجيج مدو وصفيق، حتى لكأن القيمين على تنفيذها خالوا أنهم أقرب إلى سدرة المنتهى في أعقاب فتوى أجازت انتهاك حتى تلك الكائنات في الحياة"، لكنهما يقعان بأيدي ثلة من جنود الغازي العثماني، حيث يتم الاعتداء على الشاب واغتصاب أخته أمام عينيه في سردية موجعة تحاكي الكثير من القصص التي سمعنا عنها، وتطرح سؤالها الصارخ حول وحشية الإنسان التي يبقى في الذاكرة كجرح لا يندمل، عبر مشهدية تنوء بثقلها ولغة جارحة لذاكرة الروح.

"ها هي الحكاية، في وجهها الذميم والمتناقض، تفصح عن رجل تتناهبه الهزائم المتتابعة، رجل يسير متثاقلاً كشبح ربما، وربما كظل واهن هو لا يريد أن يصدق بأنها النهاية! أن تحتكم قصتهما إلى مآلات العدم على هذا النحو الفاجعي والممرض، فهذا ما لا طاقة له وبه ولا احتمال".

لذلك بدا الموت نهاية طبيعية لبطل القصة الأخيرة في المجموعة وجاءت بعنوان "مفازات العشق" مسترسلة في أربعة فصول "مقام الحب، مقام النوى، تقاسيم السواد، مقام الموت"، واستغرقت تفاصيلها ضعف حجم القصص السابقة مجتمعة، وفيها حكاية حب تلعب الظروف الاجتماعية والانتماء دوراً في إبعاد العاشقين، ولكن دوران الزمن يعيد اللقاء بينهما بعد أن أسس كل منهما أسرته الخاصة، فيحاولان استرداد ما ضاع منهما من مشاعر غامرة، لكنها بدت هنا في حال من "الإثم" بسبب وضعهما الاجتماعي الذي يخشيان جرحه، ليرسم لنا الكاتب بكثير من الرومانسية الجارحة صور المعاناة والضياع والصراع بين ما تصبو إليه الروح والنفس وما تفرضه الحياة بواقعيتها وقيمها التي تحول بينهما في النهاية، بلغة متوترة حيناً وصارخة حيناً أخر في تعبيرها عن هذه المعاناة سواء مع زوجته من طرف، ومن طرف آخر زوجها الذي يعيش شكاً، مظهراً مكنونات النفس البشرية في تجلياتها الموجوعة في تفاصيلها ونهايتها.

----

الكتاب: في ارتطام الجهات

الكاتب: محمد باقي محمد

الناشر: وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب