ظهر الجزء الأول من كتاب "رأس المال" خلال حياة كارل ماركس، أما الأجزاء الأخرى فقد تم تجميعها من أوراقه المتناثرة وتعليقاته وملاحظاته ومسوداته التي وجدت في مكتبه. وتأخر ماركس سنوات طويلة عن وعده بإنجاز كتابه الفريد.

يرى فرانسيس وين مؤلف كتاب "رأس المال.. سيرة كتاب"، بأن تحفة ماركس "رأس المال"، ليست بحثاً تقليدياً، لأن طموحه كان أكثر جرأة، حيث يصف بيرمان مؤلف "رأس المال" قائلاً: "إنه واحد من العمالقة المعذَّبين في القرن التاسع عشر إلى جانب بيتهوفن وغويا وتولستوي ودستويفسكي وإبسن ونيتشه وفان كوخ، ممن دفعوا بنا صوب الجنون، كما دفعوا أنفسهم، لكن عذابهم ولّد قدراً كبيراً من الرأسمال الروحي الذي لا نزال نعتاش عليه".

ولد كارل ماركس في مدينة ترير البروسية عام 1818، وقد شجعه والده على القراءة بنهم، إضافة إلى أن صديق والده البارون لودفيغ فون ويستفالن قد عرّفه على الشعر والموسيقى، وكان يتلو على مسمعه مقاطع من هوميروس وشكسبير. ولذلك نرى أن كتاب "رأس المال" يستشهد بمقاطع من الشعر والنثر الأدبي، كإيراده خطبة من مسرحية "تيمون الأثيني" لشكسبير عن الذهب بوصفه "عاهرة مبذولة للجميع"، تتلوها خطبة من "أنتيغون" لسوفوكليس "المال! المال أسوأ ما اخترعه الإنسان. ذلك ما يخرب المدن، ويطرد البشر من بيوتهم، ويفسد الأنفس النبيلة ويغويها، إلى طريق العار".

حين نال الدكتوراه، قرر أن يصبح محاضراً في الفلسفة، ولكنه غير رأيه لأن القرب من الأساتذة كان بالنسبة إليه أمر لا يطاق، حيث يقول: "من الذي يريد أن يتكلم طوال الوقت مع سفلة مثقفين، مع أناس لا يدرسون إلا كي يجدوا مآزق جديدة في كل زاوية من زوايا الدنيا؟!". وبدأ في العام 1842 بالكتابة إلى صحيفة "الجريدة الرينانية" وعين محرراً فيها. وكانت المقالة الأولى في الجريدة عبارة عن هجوم عنيف على الحكم البروسي المطلق. عندها طلب حاكم الإقليم من وزير الرقابة في برلين أن يقاضي ماركس على نقده. وكذلك فإن القيصر الروسي شخصياً رجا ملك بروسيا أن يوقف الجريدة الرينانية التي أثارت سخطه بنقدها الساخر والعنيف لروسيا.

أغلقت الجريدة الرينانية في آذار من عام 1843. وانتقل ماركس إلى فرنسا بدعوة من جريدة "الحوليات الألمانية الفرنسية" ليعمل محرراً فيها. وانتقل هو وزوجته جيني فون ويستفالن إلى باريس، والتقى هناك بالصحفي أرنولد روغه والشاعر جورج هيرويغ، وأنشؤوا تعاونية اشتراكية أو كومونة، مستلهمين الأفكار اليوتوبية التي عرضها الاشتراكي الفرنسي شارل فورييه. أغلقت المجلة بعد عدد واحد، فتلقى ماركس عرضاً للكتابة في جريدة "إلى الأمام"، وهي صحيفة شيوعية كان يصدرها منفيون ألمان مرتين في الأسبوع.

تعرف إلى فريدريك إنجلز عام 1844 في منزل ماركس في باريس. وكان ماركس معجباً بمقالة إنجلز "نقد الاقتصاد السياسي" التي قدمها إلى "الحوليات الألمانية الفرنسية". ولعب إنجلز دوراً في تعريف ماركس بالرأسمالية في الممارسة، لأن إنجلز كان الابن الوريث لألماني يعمل في صناعة الأقطان ويملك محالج في مانشستر قلب الثورة الصناعية.

في رأس السنة 1866 جلس ماركس كي ينجز نسخة نظيفة خالية من العيوب من تحفته "رأس المال"، واستغرق ذلك سنة وبعض السنة، لأنه أصيب باضطراب الكبد وتفشت الدمامل في جسده، لدرجة أنه كتب الصفحات الأخيرة وهو واقف لأن البثور والدمامل كانت تؤلمه وتمنعه من الجلوس. ووقعت عينا إنجلز على مقاطع معينة في النص تركت الدمامل آثارها عليها، وعلق ماركس قائلاً: "على أي حال، آمل أن البرجوازية لن تنسى دماملي إلى الممات. يا لهم من خنازير".

أكمل ماركس الكتاب نهائياً، وسلمه لناشره في هامبورغ في نيسان 1867. استغرق نفاد الطبعة الأولى التي صدرت في 1000 نسخة أربع سنوات. ونشر الطبعة الثانية في 1872، وصدرت الترجمة الروسية عام 1872، وحكم الروس على النص بأنه مستغلق إلى درجة أن قلة فحسب ستقرأه وأقل منها ستفهمه.

----

الكتاب: "رأس المال".. سيرة كتاب

الكاتب: فرانسيس وين

المترجم: ثائر ديب

الناشر: دار فواصل، اللاذقية، 2019