يتساءل المؤرخ ومؤسس تخصص تاريخ العلوم جورج سارتون في كتابه "تاريخ العلم والأنسية الجديدة" عن الأحداث الرئيسية في تاريخ الإنسان، هل يسيّرها عدد قليل نسبياً من الأفراد، أم مجموعات كبيرة من سواد الأمم؟ وهل هم من نسميهم الزعماء، أم هم القادة الحقيقيون؟ وهل هم من يعلّمون الناس، أم أنهم مجرّد أبواق؟ وهل هم خلاقون حقاً، أم دمى جامدة؟

تناول هذه الأسئلة جيل بعد جيل من المؤرخين، وتألف من حولها مدرستان من مدوني التاريخ هم "الفردانيون" (الذين رأوا أن جمع سير العظماء والأبطال هو الجوهر في تاريخ الإنسانية)، و"السواديون" (الذين رأوا أن مجموعة مختارة من السير لا يمكن أن تحل محل تاريخ الأمم نفسها، لأن هؤلاء العظماء ما هم غير جزء منها، وأنهم ليسوا الجزء الأسمى)، ويرى سارتون أن أسلوب السير هو الأكثر تقبلاً عند الناس، فمنذ عهد بلوطرخوس إلى عصر كارليل وحتى عصرنا هذا، وليس في الغرب وحده بل في الصين وبلاد الإسلام، كان لهذا الأسلوب مؤيدوه ومناصروه.

ويرى سارتون أننا إذا عمدنا إلى كتابة سيرة شخص، فقد نجهد أنفسنا قبل كل شيء في أن نصف كيف نشأت عبقريته، وكيف تدرجت آثاره وأعماله نحو التقدم، وهذا التدرج التقدمي هو نقطة ارتكاز القصة، وكذلك التاريخ الإنساني، فإنه لا يكون ذا خطر حقيقي ما لم نصور ارتقاء الإنسان إذ يسلك سبيله نحو اتجاه ما.

يبيّن سارتون أنه يمكننا أن نتصور إنسانية العلم بأسلوب أكثر تواضعاً من خلال نظرة تأملية على أدواتنا، فالعلم لم يُخلق بعقولنا فقط، بل إنه ثمرة لأيدينا، والأساليب العلمية ليست كلها مجردة، وتقدّم المعرفة مرهون باستخدام كل وسيلة في متناولنا، ففي بعض الأحيان يقودها العقل، وفي أحيان أخرى تقودها أيدينا، أو قد تهدينا الأدوات التي صنعها وخلفها لنا أسلافنا، كأنما هي امتداد لحياتهم وشخصياتهم. فالمعرفة العلمية ليست الجزء الأثمن من تجاربنا، بل جهادنا المستمر الثابت في سبيل تحصيلها، وما من شيء يبهرنا بعد الطبيعة غير تدرج الإنسان في تفهمها.

ويذهب سارتون إلى أن التقدم الدائم يمكن أن يُستمد من تكامل المعرفة به أو استكشاف طريقة لتطبيق هذه المعرفة، وعبقرية الإنسان تتصل بصور أخرى من الابتكار والخلق غير الصورة العلمية المحض، لكنها لا تعرف صورة أخرى تبين عن خطى التقدم والاستمرار.

ومهما يكن من ثمرات العلم من نفاسة، إنما هي رخيصة تافهة القيمة إلى جانب الروح التي أخرجتها إلى النور، روح قديمة قدم الإنسان نفسه. يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس: "ما من شيء هو أسوق إلى رفعة العقل، كالقدرة على امتحان كل شيء يصادفنا في الحياة بأمانة وبصيرة موجهة بأسلوب صحيح، والتأمل من هذه الأشياء دائماً بطريقة تهدينا إلى خليقة ذلك الكون الذي نحن جزء منه، ومن منافعها وقيمها من حيث صلتها بالكل الكائن". وهنا يرى سارتون أن ما في هذا القول هو على وجه الدقة وظيفة العالم، غير أنها وظيفة أكثر تشعباً وأصعب مراساً مما تخيّل أوريليوس أو توهم عظماء العلماء والفلاسفة في العصر القديم، وتاريخ العلم ليس هو تاريخ الاستكشافات، بل تاريخ الأسلوب الذي جعل تلك الاستكشافات أمراً ممكناً، والحصول على المعرفة وحده لا يكفي، بل ينبغي أن نؤنسها، وهذه هي المهمة الرئيسية الموجبة على المؤرخ، إذ كيف لنا أن نسبر عمق إنسانية العلم، إذا لم نفسّر أصوله الأولى ودوراته الارتقائية غير المتناهية.

والعلم يرتقي ويتطور كما لو أنه له حياة خاصة به، ومهما يكن من أمر العلم، فإنه لا يتقدم ويزهر في فراغ سياسي، ذلك في حين أن كل مسألة علمية توحي قسراً بمسائل جديدة لا يربطها بها من رباط إلا رباط المنطق، وكل استكشاف جديد يفضي إلى ابتكار فرع جديد من العلم، وهيكل العلم ينمو ويتقدم على ظاهرة نمو الشجرة، فكلاهما يعتمد على البيئة ظاهرياً، في حين أن أسباب النماء كالحافز النمائي والدفع إليه هو كائن في كيان الشجرة لا في خارجها، وشجرة العلم هي الرمز الذي يشير إلى عبقرية النوع البشري في مجموعه وجلاله وعظمته.

----

الكتاب: تاريخ العلم والأنسية الجديدة

الكاتب: جورج سارتون

ترجمة: إسماعيل مظهر

الناشر: مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر 1961