في العصر العباسي كان الانتساب إلى الفلسفة مرادفاً للانتساب إلى الكفر، فاضطر أصحاب الفلسفة إلى التستر من خلال الجمعيات السرية، ومنها جمعية إخوان الصفا والتي تأسست في بغداد أواسط القرن الرابع للهجرة، حيث كانوا يجتمعون سراً يتباحثون في الفلسفة، حتى صار لهم مذهب خاص هو خلاصة أبحاث فلسفة الإسلام.

دوّن إخوان الصفا فلسفتهم في اثنتين وخمسين رسالة سمّوها رسائل إخوان الصفا، وهي رسائل تمثل الفلسفة الإسلامية على ما كانت عليه إبان نضجها[1].

يبين إخوان الصفا أن الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم، والعلوم الفلسفية أربعة أنواع: أولها الرياضيات، والثاني المنطقيات، والثالث العلوم الطبيعية، والرابع العلوم الإلهية. والرياضيات أربعة أنواع أولها الأرثماطيقي (معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورث ونيقوماخس)، والثاني الجومطريا (علم الهندسة بالبراهين التي ذُكرت في كتاب إقليدس)، والثالث الأسطرنوميا (علم النجوم بالبراهين التي ذكرت في كتاب المجسطي)، والرابع الموسيقى (معرفة تأليف الأصوات، وبه استخراج أصول الألحان). وإن أول ما يُبتدأ بالنظر به في هذه العلوم الفلسفية الرياضيات، وأول الرياضيات معرفة خواص العدد لأنه أقرب العلوم تناولاً، ثم الهندسة، ثم التأليف، ثم التنجيم، ثم المنطقيات، ثم الطبيعيات، ثم الإلهيات[2].

العالَم إنسان كبير والإنسان عالَم صغير

يقول الحكماء إن العالَم إنسان كبير، وقد فسّر إخوان الصفا قصد الحكماء من قولهم هذا، بأن العالَم إنما يعنون به السماوات السبع والأرضين وما بينهما من الخلائق أجمعين، وسموه إنساناً لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سمواته وأركان أمهاته ومولّداتها، وله نفس واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها. والصورة المقومة لذات الجسم هي الطول والعرض والعمق، ومن الصورة المتممة للجسم الشكل (كالتثليث والتربيع والتخميس والتدوير وما شاكلها)، والحركة (دورية ومستقيمة)، وجسم العالم بأسره كروي الشكل، وحركات أفلاكه كلها دورية، ونور الكواكب السماوية كلها ذاتي إلا القمر، والنور والظلمة هما صفتان من صفات الأجسام.

ويتحدث إخوان الصفا في رسائلهم عن البروج، وهي اثنا عشر قسمة وهمية في سطح فلك المحيط، يفصلها اثنا عشر خطاً وهمياً، تبدأ من نقطة وتنتهي إلى نقطة أخرى في مقابلتها، فيقسم سطح الكرة باثنتي عشر قسمة، كل واحد منها تسمى البرج، والنقطتان تسميان قطبي الكرة، والشمس ترسم على سطح كرتها بحركتها في كل /365/ يوماً دائرة وهمية، والدائرة تقسم الكرة نصفين، وكل برج بقسمين متساويين، حصة كل برج من تلك الدائرة قطعة قوس قدرها ثلاثون جزءاً من /360/، وبهذه الدائرة ودرجتها يُقاس دوران سائر الأفلاك والكواكب، وبحركات الشمس تعتبر سائر حركات الكواكب في الزيجات، وبأحوال الشمس تعتبر أحوال الكواكب في المواليد.

والأجسام التي تحت فلك القمر هي سبعة أجناس بسيطة ومركبة، أربعة منها هي الأمهات الكليات "البسيطة" (النار والهواء والماء والأرض)، وثلاثة هي المولدات الجزئيات "المركبة" (الحيوان والنبات والمعادن).

والإنسان كما يُفسر إخوان الصفا هو عالم صغير، واسم الإنسان إنما هو واقع على هذا الجسد الذي هو كالبيت المبني، وعلى هذه النفس التي تسكن الجسد، وهما جميعاً جزآن له، وهو جملتها والمجموع منهما. والشاهد من حالات الجسد يدل على الغائب من حالات النفس، والظاهر يدل على الباطن، والمكشوف على المستور، والجلي على الخفي، والمحسوس على المعقول. والجسد المؤلف من (اللحم والدم والعظام والعروق والأعصاب والجلد) أجسام أرضية ميتة مظلمة ثقيلة متجزئة فاسدة، أما النفس فإن جواهرها سماوية روحانية ناطقة نورانية غير ثقيلة ولا متجزئة وغير فاسدة، بل متحركة باقية علامة دراكة لصور الأشياء وحقائقها[3].

في العشق

وذكر إخوان الصفا في رسائلهم طرفاً مما قال الحكماء والفلاسفة في ماهية العشق وأنواعه وكيفية نشوئه ومبدئه وعلله وأسبابه والغرض الأقصى منه. فمن الحكماء من قد ذكر العشق وذمه، ومنهم من قال إن العشق فضيلة نفسانية، ومنهم من زعم أنه مرض نفساني أو جنون أو همة نفس فارغة، ومنهم من زعم أنه إفراط المحبة وشدة الميل إلى نوع من الموجودات دون سائر الأنواع، وإلى شخص دون سائر الأشخاص، أو شيء دون سائر الأشياء، فإن كان العشق هو ذا، فليس إذاً أحد من الناس يخلو منه إذ لا يوجد أحد إلا وهو يحب ويميل إلى شيء دون سائر الأشياء أكثر مما ينبغي، وكثير من الحكماء والأطباء يسمون هذه الحال ماليخوليا، وقد أكثر الأطباء القيل والقال في هذه العلة وأعياهم علاجها[4].

في الاختلاف

والناس مختلفون في آرائهم ومذاهبهم، كما هم مختلفون في صور أبدانهم وأخلاق نفوسهم وأعمالهم وصنائعهم، وسبب اختلاف أخلاقهم بحسب إخوان الصفا أربع جهات: إحداها من جهة اختلاف تركيب أبدانهم ومزاج أخلاطها، والأخرى من جهة نشوئهم على عادات آبائهم في سنن دياناتهم، كذلك حسب عادات من يربيهم ويؤدبهم، أيضاً من اختلاف من جهة أشكال الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم ومسقط نطفهم.

يقول إخوان الصفا: "اعلم أن الناس مطبوعون على أخلاقهم، بحسب اختلاف تركيب مزاج أجسادهم وبحسب اختلاف أشكال الفلك في أصل مواليدهم، واعلم أن من الناس من هو مطبوع على خلق واحد أو عدة أخلاق محمودة ومذمومة، وأن العادات الرديئة تقوي الأخلاق الرديئة، والعادات الجميلة تقوي الأخلاق المحمودة، وهكذا حكم الآراء والاعتقادات، فمن الناس من يرى ويعتقد أنه حلال سفك دم كل مخالف له، ومن الناس من يرى ويعتقد في دينه ومذهبه الرحمة والشفقة للناس كلهم، ويرثي للمذنبين ويستغفر لهم، ويتحنن على كل ذي روح من الحيوان، ويريد الصلاح للكل، وهذا هو مذهب الأبرار والزهاد والصالحين من المؤمنين، وهكذا مذاهب إخواننا الكرام[5].

----

المراجع:

[1] تاريخ فلاسفة الإسلام، محمد لطفي جمعة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 255- 256.

[2] رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء (الجزء الأول) ، إخوان الصفا، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2018، ص 63- 64.

[3] رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء (الجزء الثاني) ، إخوان الصفا، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2018، ص 24- 26- 46- 101- 269- 270.

[4] رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء (الجزء الثالث) ، إخوان الصفا، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2018، ص 77- 78.

[5] رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء (الجزء الرابع) ، إخوان الصفا، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2018، ص 9- 139.