بدأ ابن الفارض حياته صوفياً سائحاً في وادي المستضعفين بجبل المقطم، ثم رحل إلى الحجاز وقضى فيها خمسة عشر عاماً سائحاً في أودية مكة، وقد أخذ نفسه بالتصفية وقلبه بالتنقية، وكانت له أحوال وأحلام وفراسات ومكاشفات. والمتأمل في حياته الصوفية يلاحظ أنها حياة خليقة نقية بكل ما في هذا الوصف من معنى، وقد عمد فيها سلوكاً لا شبهة فيه سواء فيما بينه وبين نفسه وربه، أو فيما بينه وبين غيره من الناس.

ابن الفارض هو أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، حموي الأصل، مصري المولد والدار والوفاة، عُرف بابن الفارض، ونُعت بشرف الدين وهو اللقب الصوفي الذي يُطلق على الشيخ صاحب الطريقة.

يقول د. محمد مصطفى حلمي في كتابه "ابن الفارض والحب الإلهي" إن ابن الفارض كان يحيا حياة خلقية تُعدّ مثلاً أعلى يحتذى به، وهذا ما تظهرنا عليه رياضاته العملية التي كان يذهب فيها إلى أبعد حدّ من مجاهدة النفس وإخضاعها لفنون مختلفة من الحرمان، وألوان شتى من التهذيب. كما كانت له رياضات عملية وأذواق ومواجيد روحية، حيث تصور الأولى حياته الخلقية، وتصور الثانية حياته النفسية التي كانت تمتاز بالغيبة والاستغراق فيها، إلى حد لم يكن للشاعر الصوفي ليشعر معه بمن حوله ولا بما يحيط به، كما كان محباً للجمال أينما كان وفي أي صورة تجلى، وقد تقلّب في مراتب السلوك وأطوار الحب مرتبة بعد مرتبة وطوراً بعد طور، حتى انتهى إلى أرقى المراتب وأسمى الأطوار، حيث لم يعد يفرق بين الكائنات، بل أصبحت لديه شيئاً واحداً، أو بعبارة أخرى مظاهر متكثرة لحقيقة واحدة هي الذات العلية التي أحبها وانجذب إليها، وهام بها حد الفناء فيها.

ولا يكاد تُعرف لابن الفارض آثار أدبية أو صوفية غير ديوانه الذي ينظر إليه أصحاب الأدب على أنه كغيره من دواوين الشعر الغزلي الإنساني، وينظر إليه أهل الذوق والوجد من الصوفية على أنه مرآة صادقة ينعكس على صفحتها ما فاضت به نفس الشاعر من حب إلهي. والحقيقة أن هذا الديوان جعل من ابن الفارض سلطاناً للعاشقين وإماماً لجميع المحبين.

ويرى د. حلمي أن هذا الديوان على ضآلته يمكن أن يُعد بحق تراثاً روحياً خصباً خالداً، من شأنه أن يُهيئ للآداب العربية مكانها إلى جانب الآداب الفارسية، عندما يتساجل الأدبان وتتنازع اللغتان أمر الحب الإلهي، كما أنه يعتبر الديوان تحفة أدبية له خصائصه الفنية، بقدر ما هو تراث روحي له قيمته الفلسفية.

قامت في حياة ابن الفارض ضجة حول مذهبه وعقيدته وملاءمة هذا المذهب وهذه العقيدة لما ورد في الكتاب والسنة، على أن الضجة التي قامت في حياته لم تصلنا أخبارها واضحة إلى ما بعد وفاته حيث قويت واشتدت ووضحت وامتدت. فقد رأى فريق من رجال الدين في أحواله ومواجيده ضروباً من الهذيان، كما رأوا في مذهبه سوء الاعتقاد والقول بوحدة الوجود والحلول ما ينافي تعاليم الإسلام، في حين نظر فريق آخر إلى أحواله ومواجيده على أنها من آيات ولايته، ودلالة صفاء نفسه ونقاء سريرته وجلاء عين بصيرته، كما نظروا إلى مذهبه على أنه إشراقة من إشراقات الكشف ونفحة من نفحات الإلهام.

أما من وجهة نظر د. حلمي، فإن الفكرة الجوهرية التي وجهت حياة ابن الفارض الروحية وانطوى عليها مذهبه في الحب الإلهي، هي فكرة حب الله لذاته، وهذا ما نجده عند رابعة العدوية وإبراهيم بن أدهم، لكن ابن الفارض كان متأثراً بغيرهم أيضاً، فهناك وجه لتأثره بذي النون المصري في المعرفة، ووجه لتأثره بالحلاج في استعمال لفظتي اللاهوت والناسوت، وفي الكلام عن الحقيقة المحمدية وقدمها، وفي وحدة الأديان وائتلافها، بالإضافة إلى تأثره ببعض الفلاسفة والفرق الإسلامية.

وكذلك فإن تأثر ابن الفارض لم يقف عند هذا الحد، لكن تجاوزه إلى القرآن الكريم والحديث قدسياً كان أم نبوياً، فتمتع بمهارة فائقة وقدرة عجيبة على إدخال عنصري القرآن والحديث إلى شعره، وتغذية مذهبه الصوفي بهما، على وجه لم يتهيأ لكثير غيره من الصوفية لا سيما الشعراء منهم.

----

الكتاب: ابن الفارض والحب الإلهي

الكاتب: د. محمد مصطفى حلمي

الناشر: دار المعارف للطباعة والنشر