تختصر الموسيقا حضارة مجتمع، وتعكس جوهر سماتها، وللموسيقا الرافدية تاريخ عريق، وأصل يرجع إلى آلاف السنين، وتركت هذه الحضارة أقدم الأدلة والشواهد الأثرية التي توثق الثقافة الموسيقية السائدة في البلاد. وقد عرف الإنسان الموسيقا منذ أقدم العصور، وأول الأصوات الموسيقية التي نعرفها هي الصادرة عن عناصر الطبيعة المحيطة به، ومما لا يعبر عنه بالنطق، عبر عنه بالآلات والأدوات الموسيقية التي وفرتها الطبيعة من أخشاب وجلود وعظام.

بدأ الكاتب عطاء رعد أبو الجدايل كتابه "الدور الوظيفي لفن الموسيقا في حضارة بلاد الرافدين عصري البرونز القديم والوسيط" بالحديث عن أهمية حضارة بلاد الرافدين، فهي من أهم حضارات الشرق القديم التي ازدهرت بها الموسيقا لتصبح فناً وعلماً مستقلاً ومرتبطاً في الوقت نفسه مع العلوم والفنون الأخرى. وبحث الكاتب في الدوافع والأسباب التي أدت إلى تطوير هذا الفن في تلك الفترة الزمنية المبكرة من الحضارة الرافدية، ويركز على الدور الوظيفي لفن الموسيقا الرافدية، والتعمق بالأحداث والفعاليات التي نُظّمت بموجبها العروض الموسيقية.

ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول: حيث يعرض الفصل الأول مجموعة من الشواهد والأدلّة الأثرية الفنية التي تحمل مشاهد تصف الحياة الموسيقية القائمة في بلاد الرافدين خلال عصري البرونز القديم والوسيط، مثل المنحوتات وبقايا المزهريات والأواني وقطع التطعيم والترصيع والأختام الأسطوانية والألواح الطينية. ومن خلال دراسة الشواهد الفنية تبين وجود عروض موسيقية منظمة ومتطورة، وكانت تضم موسيقيين يعزفون على آلات متنوعة الأصناف والأشكال والأحجام، فهناك الآلات النفخية (الأنابيب الهوائية، القرن، البوق)، والآلات الإيقاعية (المصفقات، الصلاصل، الخشخاشات، الصنوج، الطبول، الدفوف) والآلات الوترية (الجنك، القيثارة، العود) وكانت عروض متكاملة بمشاركة الراقصين والمغنّين.

يبحث الفصل الثاني في أنواع الموسيقا ومجالات استخداماتها في الحياة اليومية، وذلك بالاعتماد على تحليل المشاهد التي وثقتها الأدلة والقطع الأثرية الفنية، حيث نظّمت العروض الموسيقية الفردية والجماعية للآلهة والملوك المؤلهين، وتعتبر الموسيقا عنصراً مهماً في العديد من الطقوس والشعائر التابعة للمعابد، إضافة إلى حفلات الشراب واحتفالات النصر، وخلال نشاطات تحضير الأغذية وتخزينها والحفلات الخاصة والمنافسات الرياضية والزراعة والرعي.

يعرض الفصل الثالث الدور الوظيفي للموسيقا في الحضارة الرافدية، وذلك من خلال الأدلة الأثرية الكتابية المؤرخة لعصري البرونز القديم والوسيط، إذ تحمل النصوص الكتابية القديمة العديد من المعلومات التي تدل على دور الموسيقا في حياة آلهة وملوك بلاد الرافدين، إضافة إلى تنظيمها في القصور والمعابد، ومشاركتها في الأنشطة الحياتية لباقي أفراد المجتمع، والبحث في حياة الموسيقيين ومراتبهم الاجتماعية، وغير ذلك من المعطيات التي تشير إلى أهمية الموسيقا خلال تلك العصور.

وقد أكدت المصادر الكتابية استخدام الموسيقا عند أعمال بناء المعابد والاحتفال في افتتاحها، ودورها عند رثاء المدن والمعابد المدمرة، وتم استخدام الموسيقا في الشعائر الجنائزية حيث ضحى الموسيقيون بأنفسهم لمرافقة ملكهم "جلجامش" في رحلته إلى العالم الآخر. وحسب الأساطير الرافدية، فقد حرصت الآلهة على اقتناء الآلات الموسيقية لدورها في بناء المجتمعات وتحضرها، واهتم الملوك والقادة بالموسيقا، فاحترفوا العزف على الآلات الموسيقية، وأسس الملك"شولجي" داراً لتعليم الموسيقا في قصره، واعتبر الموسيقيين في المرتبة الثانية بعد الملكات مباشرة.

----

الكتاب: الدور الوظيفي لفن الموسيقا في حضارة بلاد الرافدين

الكاتب: عطاء رعد أبو الجدايل

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2021