"يحث تشارلز قراءه، باختصار مشوق، على مرافقة الصفر من هاوية الفراغ ليخرج إلى اتساع الكون اللانهائي". تمهد هذه الكلمات مدخلاً أولياً لكتاب "الصفر، سيرة فكرة خطرة" لمؤلفه تشارلز سيف الذي يضعنا مباشرة في قلب الإشكالية الغنية والمثيرة للفكر والخيال إزاء هذا "العدد" الخارج عن القانون.

يشير الكاتب إلى أن "الخلافات حول الصفر هي المعارك التي هزت أسس الفلسفة، والعلوم، والرياضيات والدين، فالصفر واللانهاية يكمنان مباشرة في كل ثورة" .. وقد كان الصفر دائماً في قلب المعركة ما بين الشرق والغرب وفي مركز الصراع ما بين الدين والعلم. وقوة الصفر هذه تأتي من أنه "توأم اللانهاية، وكلاهما متساو ومتعاكس مثل الين والينغ، كلاهما متساو في المفارقة والإرباك".

الصفر مفهوم شرقي ولد في منطقة الهلال الخصيب قبل ولادة المسيح، لم يستدع الصورة الأولية للفراغ فقط بل امتلك خواص رياضية خطيرة أيضاً، يوجد في الصفر قوة تحطيم إطار المنطق. وحين كان الصفر شيئاً غير موجود بالنسبة إلى الإنسان القديم، فقد ميز البشر بين الرقم واحد وكثير فقط، ثم تطورت تلك المعرفة بمرور الوقت.

وقد اعتبرت مقدرة العد موهبة ذات طابع روحي. ففي كتاب "الموتى المصريين" يتحدى "أكن" أرواح الموتى التي ينقلها رجل القارب المبحر في نهر العالم السفلي من خلال العد، ويرفض السماح لأي فرد أن يصعد على متن المركب إن لم يكن يعرف تعداد أصابعه وفق هذه السردية.

يطوف الكتاب عبر صفحاته على الحضارات القديمة وكيفية الوصول إلى الأرقام وتصحيحها، فقد كانت هناك العديد من الأنظمة القديمة سواء لدى الشعوب الشرقية أو المصريين وكذلك الأوروبيين. وعند المصريين كانت الرياضيات أكثر تعقيداً، ومع ذلك لم يكن الصفر موجوداً عندهم أو عند اليونانيين والرومان.

درس الرياضيون الأوائل، مثل تالس وفيثاغورث، الرياضيات على أيدي المصريين الذين كانوا أسياداً فيها، وبرعوا في الهندسة ذات الطابع العملي، في حين زاوج اليونانيون بين التجريد والفلسفة دافعين الرياضيات إلى ذروتها في الزمن القديم، ومع ذلك لم يأت الصفر من عندهم، بل جاء من الشرق.

ولادة الصفر

يقول المؤلف إن الصفر ظهر في نظام الأرقام الأكثر تطوراً، وهو الأنموذج البابلي للعد في منطقة الهلال الخصيب "العراق". وقد اخترع البابليون آلات لمساعدته في العد، وأكثرها شهرة آلة "المعداد".

من جانبهم اليونانيون والرومان كرهوا الصفر، بل احتقره اليونانيون، رافضين قبوله في كتاباتهم على الرغم من معرفتهم بمدى نفعه والسبب: الصفر خطير؟ ويعود ذلك إلى ارتباطه بالفراغ والعدم، وهناك خوف أولي من الفراغ والفوضى ومن الصفر نفسه، إذ إن معظم الشعوب اعتقدت أن الفراغ والفوضى كانا حاضرين قبل تشكل الكون. واعتقد اليونانيون أن الظلمة كانت في البدء أماً لكل الأشياء ومنها انبثقت الفوضى.

ويتأتى الخوف العميق من الصفر، لأنه لم يكن ممكناً، عند القدماء، تفسير الخواص الرياضية له، وكانت تلك الخواص مغطاة بالغموض كولادة الكون كما يوضح المؤلف.

والخطير في هذه المعادلة القديمة أن الضرب بالصفر يحطم الأرقام كما تحطمها القسمة على صفر، ويحطم كل الأطر الرياضية، فهناك الكثير من القوة في هذا الرقم البسيط، لقد أصبح أهم أداة رياضية، لكن بفضل الخواص الفلسفية والرياضية له، أمكنه التعارض مع أسس فلسفة الغرب.

ولفت الكاتب إلى أن رفض الغرب للصفر ناشئ من أن الكون المتخيل على الأنموذج اليوناني استمر إلى ما بعد أفول تلك الحضارة، وفي الكون المتخيل ذاك لا يوجد شيء يعرفنا بالعدم، ولا يوجد صفر، واستمر ذلك قرابة الألفي عام، ما أثر على نحو كبير على الرياضيات وقيد الإبداع العلمي.

يأخذنا الفصل الرابع الذي حمل عنوان "إله اللانهاية للعدم.. لاهوتية الصفر" حيث وصل صراع الصفر مع الكنيسة إلى أوجه بسبب اعتقاد الكنيسة الراسخ بالأرضية القديمة، لكن دخول علماء وفلاسفة مثل كوبرنيكوس وكبلر وغيرهم، كان له كبير الأثر في هذه المعركة الفلسفية والفلكية والعلمية والرياضية في الوقت نفسه.

الكتاب ينتقل بسلاسة، في فصوله التسعة، بين التأريخ لهذه المعركة المظفرة التي قطعها الصفر في دهاليز الفلسفة والرياضيات والدين، وبين الانتصار العقلي الموضوعي لدوره في هذه الميادين كلها.

كتاب يمتلك جاذبيته وتشويقه من خلال المزج بين التاريخ والفلسفة والعلم في إطار من الإحاطة الواسعة بهذه المعركة، والإضاءة على الوعي المتصاعد بأهمية الصفر في العلوم المشار إليها. وعلى الرغم من الجانب التخصصي في مناطق واسعة من المقاربة الفلسفية والرياضية، التي خاطب بها أصحاب الاختصاص، لكنه بنى هيكلية خطاب الكتاب بشكل قريب، إلى حد ما، من القارئ الباحث عن نافذة ثقافية في مثل هذه المواضيع، مرفقاً ذلك بجداول ومعادلات تخصصية في نهاية عمله هذا.

وأختتم ما سبق بفقرة ذات دلالة مهمة: "رغم أن العلماء قد لا يكتشفون أبداً أسرار ولادة الكون، إلا أنهم على حافة فهم موته، فالقدر النهائي للكون يكمن في الصفر". ولا يغادر دون أن يشير إلى أن الكون ما زال يتسع ويتسع بشكل أسرع، وفق دراسات علمية شديدة التعمق لمسيرة الكون من خلال "المستعر الأعظم" على حافة الكون البعيد.

----

الكتاب: الصفر.. سيرة فكرة خطيرة

الكاتب: تشارلز سيف

المترجم: د. أحمد ديركي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2022