حاول الفارابي من خلال كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها" تكوين صورة عن مجتمع مثالي فاضل كالمجتمعات المثالية التي فكر فيها من قبله فلاسفة اليونان كجمهورية أفلاطون، لكن من وجهة نظر متوافقة مع السياق الإسلامي، حيث أراد أن ينشئ مدينته المثالية وفقاً للمبادئ التي تقوم عليها آراءه وفلسفته في السعادة والأخلاق والكون وما وراء الطبيعة.

يعد كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" من الكتب الفريدة في الفكر العربي القديم، حيث وضع فيه الأساس لتصور مدينة فاضلة يعيش فيها البشر كالجسم الكامل التام الذي نتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها، فكما أن مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتب بعضها البعض، وتخضع لرئيس واحد هو القلب كذلك يجب أن تكون الحال في المدينة.

"فالمدينة الفاضلة" هي ذلك التعبير الذي يستدعي إلى الأذهان أحلام الحكماء والفلاسفة منذ زمن "أفلاطون" حتى "توماس مور" وصولاً إلى العصر الحديث، ولكل نظرته الخاصة حيال تلك الحياة اليوتوبية المأمولة. فالفارابي هو أول من تبلور لديه مفهوم متكامل للمدينة الفاضلة من منظور عربي إسلامي حاول توضيحها وشرحها من خلال كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها" حيث قسم كتابه إلى قسمين: قسم بدأ به ولخص فيه المبادئ الفلسفية التي يؤمن بها والتي سيراعيها في إنشاء مدينته، وقسم ختم به كتابه وشرح فيه شؤون هذه المدينة وما ينبغي أن تكون عليه في مختلف فروع حياتها. كما شمل الكتاب على سبعة وثلاثين فصلاً، تناول المؤلف خمسة موضوعات رئيسية هي الذات الإلهية ممثلة في الموجود الأول، والعالم بما يحتوي من موجودات (جمادات وكائنات حية وأجرام سماوية والنفس الإنسانية)، والأخلاق ومبادئها الأساسية وحاجة الإنسان إلى الاجتماع، وهنا يحاول الفارابي صوغ صورة مثلى للتعاون بين أفراد المجتمع من أجل مدينة فاضلة يسود فيها العدل وينعم سكانها بالسعادة وتمكنهم من فضائلهم من الصمود في مواجهة المدن الجاهلة.

وقد شغل القسم الأول ثلاثة أخماس الكتاب، ناقش فيها الكاتب أفكاره الفلسفية في لغة معقدة يصعب على المرء فهمها بسهولة، فتناول موضوعات مختلفة مثل القول في الموجود الأول وهو الله تعالى وبيان صفاته وآرائه عن الموجودات ومراتبها وحالاتها وصلتها بالموجود الأول، وصلتها ببعضها البعض متأثرة إلى حد كبير بالأفلاطونية الحديثة. كما اعتبر الكاتب إن الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها، وجميع الموجودات من حولنا ترتبط وفقاً لمبدأ السببية بين العلة والمعلول، فالأدنى سببه الأعلى، والأعلى سببه ما هو أدنى منه، حتى نصل في النهاية إلى الحضرة الإلهية، أي أن الله هو الموجود الأول وهو الكمال المطلق وأن عقل الإنسان ناقص، فإننا لا نستطيع أن نرى الله وإنما ندرك وجوده، ويرى أيضاً أنه إذا أرنا البحث عن المدينة الفاضلة، فيجب علينا البحث عن مصدر الوجود، وهو الله.

كما قسم "أبو نصر الفارابي" من خلال كتابه نفس الإنسان إلى مجموعة من القوى، كالقوة التي يتغذى بها الإنسان وقوى الحس كالإبصار والسمع واللمس، والقوة التي يميل بها الإنسان إلى مواطن الجمال والملذات، والقوة العاقلة التي بها يحصل الإنسان على العلوم والفنون ويستطيع من خلالها الإنسان أن يميز بين ما هو سيء وما هو جيد. وكلما ارتقت النفس بتخليها عن الشهوات وتعلقها بالمادة، نجحت في الوصول إلى السعادة الحقيقية، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش وحيداً، فهو دوماً بحاجة إلى آخرين يتبادل معهم المنافع والمصالح، ومن هنا نشأت المجتمعات البشرية، وهذه المجتمعات قد تكون كاملة، فتشمل الناس جميعاً على سطح الأرض، ويطلق عليها المجتمعات العظمى.

السعادة الكاملة حسب رأي الفارابي لا تكون بالمجتمعات الناقصة، بل تنال بالأمة وتليها المدينة، كما أنه يرى أن نيل السعادة باجتماع الناس في مدينة على التعاون على الأشياء التي تجلب السعادة فيما بينهم، فنحن أمام المدينة الفاضلة واجتماعهم على نيل السعادة يعد اجتماعاً فاضلاً، وأنه إذا تعاونت عدة مدن على نيل السعادة لأصبحنا أمام أمة فاضلة.

كما شبه الفارابي "المدينة الفاضلة" بالجسم الكامل التام المعافى، الذي تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها، وكما أن مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتّب بعضها لبعض، وتخضع لرئيس واحد، هو القلب، كذلك يجب أن تكون الحال في المدينة، وكما أن "القلب" هو أول ما يتكون في الجسم، ومن ثم تتكون بقية الأعضاء فيديرها القلب، كذلك رئيس المدينة؛ فالرئيس من وجهة نظر الفارابي هو إنسان تحققت فيه الإنسانية على أكملها. والرئاسة يجب أن تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معداً لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية.

المدينة الفاضلة هي المدينة التي تتحقق فيها سعادة الأفراد على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا إذا تعاون أفرادها على الأمور التي تنال بها السعادة، واختص كل منهم بالعمل الذي يحسنه وبالوظيفة المهيأ لها بطبعه.

ويعد كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابي ثاني كتاب يتناول نظام السياسة بعد أرسطو، والثاني أيضاً في معالجة فكرة الدولة المثالية بعد كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، فقد سعى أبو نصر الفارابي من خلال الكتاب إلى التوفيق بين فيلسوفي العصر الإغريقي الكبيرين في بنائه لمدينته الفاضلة، التي كانت مصدراً استلهم منها المفكرون ودرسوها وما زالوا يدرسوها، فمدينة الفارابي ظلت خيالية حتى يومنا هذا، ما جعلها على الرغم من واقعيتها تصطف إلى جانب مدن توماس مور وكامبالا وبيكون. ولقد كان هذا الكتاب بالغ الأثر في عقلية الإنجليز والفرنسيين أثناء عصر النهضة، فلقد اتجه الجيل الأول من رواد علم الاجتماع لديهم، إلى فكرة تقسيم أنواع الدول والمجتمعات، نتيجة تأثير هذا الكتاب القيم.

----

الكتاب: آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها

الكاتب: أبو نصر الفارابي

الناشر: دار المشرق، 1986