اقترن اسم جابر بن حيان، من حيث الشهرة ومن حيث الأثر النافع، بأسماء العظماء من رواد الحضارة والعمران، وقد قال بريتلو صاحب كتاب "تاريخ الكيمياء في القرون الوسطى" إن اسم ابن حيان ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة اسم أرسطوطاليس في تاريخ المنطق، فهو بالنسبة إلى بريتلو أول من وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه في التاريخ.

عاش ابن حيان في بلاط الخليفة هارون الرشيد في بغداد، وكان على صلة حسنة بالبرامكة الذين كانوا يعلقون على علم الكيمياء شأناً كبيراً، فاشتغلوا بذلك العلم ودرسوه تدريساً عميقاً، وقد ذكر ابن حيان في كتابه "الخواص" كثيراً من المحاورات التي وقعت بينه وبينهم في معضلات هذا العلم[1].

مراحل الوجود

يرى ابن حيان أن أول ما كان في الأزل هو العناصر الأولية الأربعة (الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة)، وهذه ما يسميها (أوائل الأمهات البسائط)، وقد طرأت عليها حركة وسكون فتكوّنت منها تركيبات منوعة، ولولا الحركة والسكون لظلت تلك الأصول مستقلاً بعضها عن بعض، ويضاف إليها (مبدأ الكمية) الذي يدخل في عملية الامتزاج، إذاً فمراحل الوجود عند ابن حيان مرتبة بكيفيات فحركة وسكون فكمية.

واجتماع الأصول بعضها ببعض اثنين اثنين يُنشئ أربعة عناصر، فباجتماع الحار واليابس نشأت النار، وباجتماع الحار والرطب نشأ الهواء، وباجتماع البارد واليابس نشأت الأرض، وباجتماع البارد والرطب نشأ الماء. ثم يذهب ابن حيان إلى ترتيبها علواً وسفلاً على النحو التالي: فالنار أعلاها، يتلوها الهواء، ثم الماء وأخيراً الأرض، ويقابل الصيف النار والربيع الهواء، والشتاء الماء، والخريف الأرض.

وكذلك بدن الإنسان هو أخلاط تقابل العناصر الأربعة، فالصفراء تقابل النار وزمانها القيظ، والدم يقابل الهواء وزمانه الربيع، والبلغم يقابل الماء وزمانه الشتاء، والسوداء يقابلها الأرض وزمانها الخريف. وقد كان لكل من هذه الأخلاط شأن في العلاج الطبي للأمراض التي تطرأ على هذا الجزء أو ذاك، وهذه هي بنية العالم والطبيعة والإنسان، فكان العالَم إنساناً، وكان الإنسان جزءاً صغيراً بالإضافة إلى العالم، وهذا ما يقوله ابن حيان تلخيصاً لتقسيماته، وهو قول بالغ الأهمية في تحديد فلسفته الكونية[2].

مفهوم الميزان

كان جابر بن حيان واثقاً بأن كل ما يحدث في عالم المحسوسات والعوالم العليا الروحانية ناتج عن ترتيب منظم، عن تركيب متناغم من الحركة والسكون يختلف كماً ويمكن قياسه، عن تأليف عددي تعود إليه بنى جميع الموجودات ونظام جميع العوالم والأجناس. وهذا ما يقدمه في كتابه "التصريف" في شكل أسطورة النفس الكلية المتيمة بالجوهر الذي يشغل الدائرة التي دونها مباشرة، وتحتل النفس هذا الجوهر، ومن ثم تتداخل مع الدوائر الأربع التي يضمها هذا الجوهر وهي دوائر (الحرارة واليبوسة والرطوبة والبرودة)، فيحدث خليط من هذه المركبات حتى يصل عالم المحسوسات، وكل ما يظهر هناك يكتسب صفاته الخاصة حسب نسبة الطبائع وشدة النفس التي يمثلها. ونظام النسب هذا هو ما يشار إليه بعبارة "الموازين الطبيعية". ولقد خصص ابن حيان الأغلبية الساحقة من كتاباته لدراسة هذه الموازين الطبيعية التي هي علم الموازين بالمعنى الدقيق، والتي هي الموضوع المباشر لنظريته للخيمياء[3].

أما ميزان الحروف عند ابن حيان، فهو علم قائم بحد ذاته، ومن خلاله قسم حروف الأبجدية إلى أربع مجموعات، تتألف كل مجموعة من سبعة حروف تقابل الطبائع الأربع ودرجات الشدة الثمانية والعشرين. وقد جعل ابن حيان ميزان الحروف في مكان الصدارة، واعتبره حجر الزاوية للبحث العلمي. وقد ارتكز في منظوره هذا على تصور عام للغة الإنسانية، فاللغة برأيه ليست نتيجة صدفة أو اتفاقاً قام بين أفراد المجموعات الاجتماعية، بل هي في طبعها تتجانس مع كنه الأشياء التي تدل عليها، لذلك نجد أن كل كلمة دالة على مادة ما تعبر تماماً عن كيانها الجوهري.

قدم ابن حيان في كتابه "إخراج ما في القوة إلى العقل" عرضاً عن سباعية العلوم الخاضعة للموازين الطبيعية وهي: الطب (المجال المفضل لتطبيق مبادئ الموازين الطبيعية على الجواهر المعدنية والعضوية في عالمنا الأرض)، والخيمياء، وعلم الخواص (الذي يستخدم عدداً من العلاقات غير المرئية بين الأشياء والكائنات الحية تبعاً لبنيتها الجوهرية وشدة الطبائع فيها)، والطلسمات (التي تضيف إلى استخدام الخواص تأثير الكواكب وفعالية الهيئات)، واستخدام العلويات، وعلم الطبيعة، وعلم التكوين. وهذه العلوم كلها في رأيه تعود إلى ظواهر طبيعية تماماً، ويمكن تفسيرها بواسطة قوانين موازين الطبائع الأربع.

إن المنهج الجابري للموازين يدل على ثقة عميقة بقدرة العقل الإنساني على فهم الواقع وتحويله، فالطبيعة ليست بالنسبة إليه دفقاً هيراقليطياً لا يُدرك، والأفلاطونية المتضمنة في تفكيره تجعله يؤمن بدقة القوانين الكلية وصرامتها. ولا يحتوي الفكر الجابري على عناصر مشبوهة في نظر المذهب الرسمي للموحدين إسلاميين كانوا أم مسيحيين، فابن حيان لا يدلي مطلقاً بآراء ذات طابع مذهبي، غير أن جرأته واضحة في نظرية علم التكوين[4].

----

المراجع:

[1] تاريخ الفكر العربي، إسماعيل مظهر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 67- 68.

[2] جابر بن حيان، زكي نجيب محمود، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 95- 98.

[3] جابر بن حيان مجموعة مصنفات في الخيمياء والإكسير الأعظم، دراسة بيير لوري، بيبليون 2008، ص 13- 14.

[4] المرجع السابق، ص 19- 22- 29- 30- 35.