لم تكن فلسفة فرنسيس بيكون وافية في كثير من جوانبها بحسب الفيلسوف وعالم المنطق برتراند رسل، لكنه يرى أنه لطالما تمتع بيكون بأهمية دائمة كونه مؤسس المنهج الاستقرائي الحديث ورائد في محاولة تنظيم الإجراء العلمي تنظيماً منطقياً.

كانت القاعدة الشاملة لفلسفة بيكون قاعدة عملية، تتمثل بتزويد الجنس البشري بالسيطرة على قوى الطبيعة بواسطة الاكتشافات والابتكارات العلمية، فقد كان يرى أن الفلسفة ينبغي أن تبقى منفصلة عن الدين، لا أن تكون ممتزجة به امتزاجاً وثيقاً. كما كان بيكون أول الفلاسفة ذوي العقول العلمية الذين أكدوا أهمية الاستقراء كمقابل للقياس[1].

وبحسب بيكون، فالقياس لا ينطبق على مبادئ العلوم، ولا جدوى من تطبيقه في المبادئ الوسطى، إذ إنه لا يجاري الطبيعة في دقتها، وهو يفرض الموافقة على القضية من دون أن يمسك بالأشياء. والقياس يتكون من قضايا، والقضايا من كلمات، والكلمات هي مقابلات رمزية لأفكارنا، وعليه فإذا كانت الأفكار نفسها مختلطة ومنتزعة برعونة من الوقائع، فلن يكون هناك ثبات فيما يبنى فوقها، لذا لا أمل إلا في الاستقراء الصحيح[2].

في كتابه الأورغانون الجديد، يقول فرنسيس بيكون إنه على الرغم من صعوبة تطبيق منهجه، إلا أنه سهل في الشرح، حيث نرسي درجات متزايدة من اليقين، ونستمر في الأخذ بشهادة الحواس، ونساعدها ونحصنها بنوع من التصويب، لكن نرفض وبصفة عامة العملية العقلية التي تتلو الإحساس، بل نفتح مساراً جديداً للعقل أكثر وثوقاً، يبدأ مباشرةً من الإدراكات الحقيقية الأولى للحواس نفسها. ويرى بيكون أن هذا العلاج يأتي متأخراً جداً بعد أن استفحل الداء وضاع كل شيء، وأصبح العقل من خلال عادات الحياة اليومية ومداولاتها محشواً بمذاهب فاسدة وأوهام فارغة، ولا يبقى إلا أمل واحد للخلاص بحسب بيكون، وهو أن نبدأ العمل العقلي كله من جديد، ولا نترك العقل لحاله وطبيعته منذ البداية، بل نرشده في كل خطوة، وننفذ العمل كما لو كان يتم بمساعدة آليات ميكانيكية[3].

لقد ظل بيكون طيلة حياته قليل الإلمام بمكتشفات القرن الرابع عشر وعصر النهضة، جاهلاً بالرياضيات وبما اتخذت من شأن في تكوين العلم الطبيعي، وقد اتَّهم كوبرنيكوس بالدجل، ولم يدرك أهمية قوانين كيبلر وبحوث غاليليو، ولم يشتغل بالعلم إلا بعض التجارب التي لا تذكر، واعتقد بالسحر الطبيعي والكيمياء القديمة والتنجيم، وقد كانت أفكاره في جملتها أفكار العصر الوسيط المنقولة عن الرواقية والأفلاطونية الجديدة، وإلى جانب ذلك فقد اتهم علم عصره بالجمود والغرور، وتنبأ له بالاضمحلال، حيث اعتبر نفسه داعية لعلم جديد يزيد في سلطان الإنسان على الطبيعة.

وبيكون هو أول من وضع أسس المنهج التجريبي الحديث، وبه استقلّ العلم الطبيعي عن الفلسفة، فاتخذ الظواهر الحسية موضوعاً لدراسته، والاستقراء منهجاً لعلاجها، وترك للفلسفة البحث في الوجود اللامادي، تعالج دراسته بمناهج الاستنباط الصوري.

لقد كانت غاية بيكون من منهجه الكشف عن صور الظواهر ليعرف الخواص الذاتية للأشياء توطئة لسيادتها والسيطرة عليها، لهذا قيل إن منهجه لا يخلو من طابع ميتافيزيقي، إلى جانب ما انطوى عليه من وجوه النقص التي أغرت الكثيرين من الباحثين مهاجمته والحط من شأنه[4].

----

المراجع

[1] تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977. ص 79- 81- 82

[2] الأورجانون الجديد إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، فرنسيس بيكون، رؤية للنشر والتوزيع 2013. ص 20.

[3] المرجع السابق، ص 9- 10.

[4] فرنسيس بيكون فيلسوف المنهج التجريبي الحديث، كامل محمد عويضة، دار الكتب العلمية 1933. ص 34- 59- 82.