يُعتبر مصطلح المرونة العصبية عاماً للغاية، ويدل على حدوث تغير ما في الجهاز العصبي. وقبل خمسين عاماً من الآن، كان التفكير بأن الدماغ البالغ يمكن أن يتغير بأي طريقة، يعدُّ نوعاً من الهرطقة، فقد اعتقد الباحثون أن الدماغ يزداد صلابة بمرور الوقت، كما اعتقدوا أننا نولد بجميع خلايا الدماغ التي سنمتلكها طوال الحياة، وأن الدماغ غير قادر على إعادة تجديد نفسه، ولا يمكن إصلاح أي تلف أو إصابات تحيق به. لكن ذلك بعيد كل البعد عن الحقيقة، فالدماغ البالغ ليس قادراً على التغيير فحسب، بل إن ذلك يحدث على مدار الحياة بالفعل، استجابة لكل شيء نقوم به وكل خبرة نمرُّ بها.

لقد شهد القرن التاسع عشر جدالاً بشأن التركيب الدقيق للدماغ والحبل الشوكي. وانقسم الباحثون آنذاك إلى معسكرين، لكن الخلاف حسم في القرن العشرين بفضل عالم التشريح العصبي الإسباني "سانتياغو رامون إي كاخال"، فباستخدامه التطور الذي أُحرز في المجاهر والطرق الحديثة في الصبغ، فحص كاخال أنسجةً عصبية من أنواع مختلفة منها النوع البشري، ثم قارن بينها ووثق ملاحظاته برسومات جميلة. وبناء على عمله وأعمال آخرين، جمع أدلة كافية تقنع المجتمع العلمي بأن النسيج العصبي يتكون من خلايا تسمى العصبونات يتصل بعضها ببعض، وبذلك أسس كاخال علم الأعصاب الحديث بصفته مجالاً مستقلاً في حد ذاته.

أما عالما الفيزيولوجيا "ديفيد هوبل" و"تورستن فيسل"، فقد توصلا إلى مجموعة من الاكتشافات البارزة بشأن كيفية تأثير الخبرات الحسية في الدماغ النامي. وقدم عالم الأعصاب "بول باخ إي ريتا" أدلة على أن الدماغ البالغ ليس ثابتاً، وباستخدام جهاز تعويض حسي أتاح لمكفوفي البصر الرؤية من خلال حاسة اللمس. وفي العام 1973 أعلن "تيم بلس وتيري لومو" اكتشاف التقوية الطويلة الأمد، وهي آلية فيزيولوجية يمكن من خلالها تعزيز المشابك العصبية. ويُعد اليوم تعديل المشابك العصبية الأساس الخلوي للتعلم والذاكرة، ولهذا فإن التقوية الطويلة الأمد هي أكثر ما خضع من أنماط المرونة العصبية للدراسة.

وفي تسعينيات القرن العشرين ظهر المزيد من الأدلة المباشرة على المرونة العصبية، ذلك مع اكتشاف الخلايا الجذعية العصبية في الدماغ البالغ. أما الآن وبتوفر التكنولوجيا الأكثر تقدماً، يمكن لعلماء الأعصاب تصور الدماغ بتفصيل غير مسبوق، والتدخل بالنشاط العصبي بدقة هائلة.

ويبين الكاتب محب كوستاندي في كتابه "المرونة العصبية" أن الدماغ يتشكل بفعل خبراتنا، ويوجد الكثير من الأدلة على أن أنواعاً من التدريب العقلي لها آثارها البارزة على الدماغ، فالدماغ هو عضو ديناميكي للغاية، يتكيف مع متطلبات مستخدمه. والتدريب المكثف يغير الدماغ كي يبدأ في تنفيذ المهام الملائمة بكفاءة أكبر، فمثلاً التدريب الموسيقي والرياضي يحسن من تنفيذ تسلسلات معقدة من الحركات المطلوبة، ويتعلم المتدربون الذين اكتسبوا المعرفة تنظيم كميات هائلة من المعلومات المكانية ثم استخدامها بفعالية، وبهذه الطريقة يحسن التدريب مناطق الدماغ والمسارات العصبية التي تشترك في أداء مهمة محددة، ونتيجة لهذا التحسن يتحسن أداء الفرد في هذه المهمة، وتصبح في نهاية المطاف سهلة وتلقائية.

أدمغة الأطفال والمراهقين

وخلال الـ /15/ عاماً الماضية أصبح الباحثون أكثر اهتماماً باستكشاف العلاقة بين نمو الدماغ والحالة الاقتصادية الاجتماعية. وقد بيّنت دراسات أن الأطفال الذين يأتون من خلفيات أفقر يتمتعون بحجم أصغر من المادة الرمادية، كما ظهرت لديهم اختلافات في نشاط اللوزة الدماغية وقشرة الفص الجبهي، وقد ظهرت لديهم أشكال من النقص في مجالات كالانتباه والذاكرة والتنظيم الانفعالي.

والفقر في الطفولة قد يسبب التوتر المزمن، ما يترك تأثيراً كبيراً على نمو الدماغ، لكن غالباً تساهم في هذا عوامل أخرى منها سوء التغذية، أما المراهقون والشباب فيكونون أكثر عرضة للإصابة بالقلق والتوتر والاكتئاب والفصام، ويرتبط ذلك كله على نحو وثيق بالتغيرات المستمرة التي تحدث في الدماغ منذ فترة الطفولة المتأخرة حتى بدايات البلوغ، فتخضع قشرة الفص الجبهي على وجه التحديد لتغيرات بنيوية ووظيفية ممتدة على مدار المراهقة، ولا تصل هذه المنطقة إلى النضج الكامل حتى نهاية العشرينيات.

الأمومة، الأبوة، الشيخوخة

توضح بعض التجارب ارتباط الأمومة المبكرة بإعادة التنظيم البنيوي في الدماغ وزيادة حجم المادة الرمادية في مناطق متنوعة فيه، منها قشرة الفص الجبهي، والمهاد، ومنطقة ما تحت المهاد، واللوز الدماغية، والجسم المخطط، ويبدو أن بعض هذه التغيرات شديد الصلة بموقف الأم تجاه صغارها، وجميعها تشكل سلوك الأمومة. وفي العام 2014 نشرت أول دراسة تصوير عصبي طويلة تدرس التغيرات التشريحية الدماغية المرتبطة بالأبوة، حيث أوضحت أن بعض التغييرات التي تحدث، شبيهة بتلك التي تحدث للأمهات الجدد.

وفي مرحلة الشيخوخة يبدأ معظمنا في اختبار تداعي الوظائف الذهنية المرتبط بالسن مثل الانتباه والتعلم والتبديل بين المهام، فالدماغ المتقدم بالسن يخضع لمثل هذه المتغيرات فتموت العصبونات على وجه التحديد، وتقل درجة تماسك المادة البيضاء، ويتضح ذلك بالدرجة القصوى في قشرة الفص الجبهي والحصين الذي يبدو أنه لسبب ما أكثر عرضة لآثار التقدم بالسن. ونتيجة لهذا يقل حجم قشرة القص الجبهي بدرجة كبيرة، ويقل الوزن الإجمالي للدماغ بدرجة ملحوظة.

----

الكتاب: المرونة العصبية

الكتاب: محب كوستاندي

ترجمة: الزهراء سامي

الناشر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2022