تتخذ الفنون التشكيلية مكانة بارزة بين الأدوات التعبيرية التي جعلها الإنسان وسيلة لتجسيد أفكاره ومشاعره وأحلامه، عبر مسيرة الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ. وللدراسات النقدية دور في الكشف عن هذه الأبعاد، وتقريب المسافة بين مبدع الأثر الفني والمتلقي، فهو الوسيط الذي يحمل رسالة التقويم الجمالي في مخاطبة الفنان لتطوير العمل الفني ويضيء للمشاهد السبل التي تفضي به إلى تذوق الأثر الإبداعي واكتشاف أبعاده الفنية والمعنوية، وكلما زادت كمية الإنتاج الفني وتنوعت أشكاله ومسالكه، باتت الحاجة إلى الدراسات النقدية الواعية ضرورة لتقييم هذا الإنتاج والإفصاح عن طاقاته الإبداعية المختلفة.

بدأ الكاتب طاهر البني كتابه بشرح مفهوم النقد وتطوره الذي يعتبر عند العرب تمييز ما هو جيد عما هو رديء في الأدب أو الفن، فكلمة النقد في المعاجم العربية هي مصدر لفعل نقد؛ حيث يقال نقد فلان الدراهم أي ميّز جيدها من رديئها، ومن يقوم بالنقد هو ناقد وجمعه نقّاد وناقدون وناقدين، ونقد الشعر والنثر والرأي والكلام، أي النظر فيها وبيّن جيّدها ورديئها.

في الفصل الأول تناول الكاتب: مذاهب النقد الغربي: التقليدي، الأيديولوجي، التاريخي، السيكولوجي، الجمالي، التقني، السيميولوجي.

المذهب التقليدي: يعتمد على وصف العمل الفني وصفاً أدبياً، يهتم بالموضوع الذي يصوره والمعنى الذي يسعى إليه من خلال الصياغة التشكيلية، والبنية اللونية التي تفصح عن عناصر الموضوع وتوحي بمضمونه. أما الحكم على العمل الفني فيأتي من خلال قدرة العمل على محاكاة الطبيعة ومشابهة أبعادها الشكلية والمعنوية ضمن صياغة فنية متقنة وملامح جمالية موحية، تتخذ من الجمال الكلاسيكي معياراً للحكم.

النقد الأيديولوجي: يسعى إلى الكشف عما يتضمنه العمل الفني من قيم عقائدية، ترتبط بالمفاهيم والأفكار الدينية أو الأخلاقية أو السياسية أو الاجتماعية عبر العصور من خلال الرسوم أو المنحوتات التي أنجزها الإنسان في ظروف تاريخية مختلفة، وبذلك يكون معيار نجاح العمل الفني مرهوناً بقدرته على تجسيد بعض تلك القيم على الوجه الأمثل.

النقد التاريخي: يتناول هذا النقد الظروف التاريخية والبيئة الاجتماعية التي نما فيها العمل الفني. وأصحاب هذا الاتجاه النقدي يرون أن العمل الفني يكتسب قيمته بما يمثله من قيم فكرية وأساليب فنية، تتناسب مع المرحلة التاريخية والظروف البيئية التي أنجز فيها، فهو وثيقة فنية لعصره وبيئته، واعتبر علماً موضوعياً يتوجه نحو دراسة المكونات الاجتماعية للعمل الفني، وليس مذهباً يدرس القضايا الجمالية.

النقد السيكولوجي: يدرس المشاعر الدفينة التي تستتر خلف الأشكال والألوان التي يتضمنها العمل الفني، بوصفه يحتوي مخزوناً غنياً من الأدلة على حياة الإنسان اللاشعورية الكامنة في الأغوار السحيقة للنفس، فالعمل الفني يتضمن رموزاً وإرشادات تنطوي على معانٍ ودلالات، تفصح عن مشاعر الفنان، وتشكل صورة تبوح بانفعالاته المختلفة.

النقد الجمالي: يدرس النظام أو الأسلوب الجمالي الذي نسجت فيه هذه الأشكال حتى تتوصل إلى الفكرة أو الحالة الشعورية التي تعكسها هذه اللوحة، فالنقد الجمالي يسعى إلى تقييم العمل الفني من خلال العناصر الشكلية التي يتكون منها.

النقد التقني: يبحث في البيئة التشكيلية التي ينجز بها الفنان صبواته التعبيرية والجمالية، ويتم ذلك باستنباط قواعد الشكل الفني وتحليل الأشكال والألوان، ودراسة ملاءمة الوسائل والتقنيات لأهداف الفنان التعبيرية.

المذهب السيميائي: يعد العمل الفني نصاً بصرياً قابلاً للقراءة والتحليل من خلال ما يحمله من إشارات وعلامات يمكن تفكيكها وإحالتها إلى مكوناتها الأولية قبل إعادة تركيبها من جديد، لتشكل منظومة دلالية تفصح عن معنى النص وإدراك أبعاده.

ثم تناول الفصل الثاني إعلام النقد الغربي: أوجين ديلاكروا، شارل بيير بودلير، ليونيللو فينتوري، هربرت ريد، أندريه مالرو، جان بول سارتر، وذكر مكان ولادة كل منهم وشهاداتهم وإنجازاتهم الفنية ومؤلفاتهم ومفهوم النقد عند كل منهم وأثر شخصية الفنان على العمل الفني المنجز.

أفرد الكاتب الفصل الثالث للكتابة النقدية في البلاد العربية، ويقول إن بواكير الإنجازات التشكيلية في البلاد العربية بدأت تطل مع مطلع القرن العشرين، وظهرت الحاجة إلى الكتابة عن تلك الفنون في مصر ولبنان وسورية وبعض دول المغرب العربي.

مشكلات النقد العربي

انشغل النقد العربي بالتعبير النقدي، واللغة التي يخاطب بها المتلقي، والبحث عن مصطلحات نقدية مناسبة، فقد حاول بعض النقاد استخدام المصطلحات الغربية كما هي، وحاول بعضهم الآخر تعريبها أو إيجاد مرادفات عربية لها. لكن المشكلة الأهم تكمن في اللغة والأسلوب اللذين كتب بهما النقد، فبعض النقّاد كتبوا بلغة سهلة ومفردات واضحة مبتعدين عن الإنشاء والزينة اللفظية، فكانت دراساتهم واضحة ووصلت إلى الناس بسهولة، وأدت أهدافها، لكن بعضهم آثر أن يكتب بلغة إنشائية متعالية، فكان يحاول إشادة نص نقدي يوازي النص الفني الذي يدرسه، وأخذ ينشغل بالمفردات والتراكيب اللغوية التي تحقق له ذلك النص الذي عدّه لوناً من الإبداع المكافئ للإبداع الفني. ثم استعرض الكاتب نماذج متباينة من النقاد العرب، ووضح مناهجهم وآراءهم النقدية وأساليب تعاملهم مع النتاج الفني العربي، مظهرين أبرز ملامح النقد التشكيلي في النصف الثاني من القرن العشرين، من هؤلاء الأعلام رمسيس يونان، جبرا إبراهيم جبرا، بدر الدين أبو غازي، سلمان قطاية، نوري الراوي، طارق الشريف.

----

الكتاب: دراسات في النقد التشكيلي وجماليات العمل الإبداعي

الكاتب: طاهر البني

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2022