يميز الفيلسوف وعالم المنطق برتراند راسل في كتابه "ما وراء المعنى والحقيقة"، بين أشكال أربعة للكلمات (المنطوقة والمسموعة والمكتوبة والمقروءة)، وهذه الكلمات تستخدم بطرق شتى في السرد والطلب والأمر والتصوير الخيالي وغيرها، كما أن معرفة لغة ما تتكون من استخدام الكلمات بطريقة مناسبة، والسلوك بطريقة مناسبة عند سماعها.

وبالنسبة إلى الجُمل فيرى راسل أنها قد تكون للاستفهام أو التمني أو النداء أو الأمر، كما أنها قد تكون وصفية دلالية (صادقة أو زائفة)، ولهذه الجمل الدلالية خاصيتان مهمتان، الأولى أنها مكونة من كلمات لها معنى مشتق من الكلمات التي تحتويها، والثانية أن لها طرازاً خاصاً من الوحدة، وبفضله تكون لها القدرة على حمل خصائص لا توجد في الكلمات المكونة لها، كما أن الجملة المفردة نحوياً قد لا تكون مفردة منطقياً، ولا بدّ أن تقول شيئاً لا يمكن قوله في جملتين منفصلتين بسيطتين، كذلك في كل جملة مهمة من الضروري وجود صلة بين ما تعنيه الكلمات العديدة فيها مع إسقاط الكلمات التي تخدم مجرد البناء النحوي.

وتختلف الجملة عن الكلمة في أن لها غرضاً قد يكون مجرد توصيل للمعلومات، لكن من معاني الكلمات تشتق الجملة قوتها في تحقيق هذا الغرض، فعندما ينطق إنسان بجملة ما فإن قوتها في التأثير على أفعال السامع تعود إلى معاني الكلمات، والتأثير على أفعال السامع هو غرض المتكلم.

واللغة بالنسبة إلى راسل تخدم أغراضاً ثلاثة هي (الإشارة إلى حقائق، والتعبير عن حالة المتكلم، وتغيير حالة السامع)، وهذه الأغراض ليست حاضرة دائماً.

ويقول راسل إن اللغة عندما تكون تلقائية لا يمكن أن تكذب ولا أن تفشل في التعبير عن حالة المتكلم، لكنها قد تفشل في توصيل ما يتم التعبير عنه نتيجة للفروق بين المتكلم والمستمع في استعمال اللغة. لكن من وجهة نظر المتكلم، فإن الخطاب التلقائي لا بدّ أن يعبر عن حالته. واللغة تكون تلقائية عندما لا يكون هناك وسيط لفظي بين المنبه الخارجي والكلمة أو الكلمات. لكن ما سبق لا يُعد تعريفاً مناسباً للغة التلقائية لسببين: الأول أن الوسيط الذي يستبعد لا يحتاج لأن يكون لفظياً رغم ضرورة أن يشتمل على شيء مشترك مع ما هو لفظي، والثاني أن المنبه لا يحتاج لأن يكون خارجياً.

إن اللغة من الطراز الذي يسميه المنطقيون تأكيداً، لها وظيفتان تتمثلان بالإشارة إلى حقيقة، والتعبير عن حالة المتكلم. فباللغة قضية الصدق والزيف لها علاقة بما تشير إليه الكلمات والجمل، وليس بما تعبر عنه، ولكن يبدو أنه حين يكذب المرء يكون الزيف في التعبير، فالكذبة تظل كذبة إذا حدث أن كانت موضوعياً صادقة لكن المتكلم يعتقد أنها زائفة.

ويقول التحليل النفسي إن معتقداتنا ليست كما نعتقد، وبالتأكيد هذا هو الحال أحياناً، لكن يبدو أن هناك معنى تكون فيه فرصة الخطأ أقل فيما يتعلق بالتعبير عما هو متعلق بالإشارة.

وعند اعتبار أن الصدق والزيف ينطبقان على الجمل، حينئذٍ ووفقاً لنظرية المعرفة يوجد طرازان من الجمل، أولها تلك التي يمكن استنباط صدقها أو زيفها من العلاقة بشيء يمكن أن يسمى حقيقة، كما أن مشكلة الصدق والزيف لها علاقة بالدلالة، فيبدو أنهما ينطبقان أساساً على المعتقدات، وباشتقاق فقط على الجمل التي تعبر عن معتقدات.

ويبين راسل أن هناك علاقة يمكن اكتشافها بين بناء الجمل وبناء الأحداث التي تشير إليها الجمل. ولا يَعتقد راسل أن بناء الحقائق غير اللفظية غير قابل للمعرفة بكامله، لكنه يعتقد أن خصائص اللغة قد تساعد في فهم بناء العالم. وفيما يختص بالعلاقة بالحقائق غير اللفظية، فيقسم راسل الفلاسفة إلى ثلاث مجموعات كبيرة، أولها الفلاسفة الذين يستنتجون خصائص العالم من خصائص اللغة، وهم فئة شديدة التميز، وتشمل بارمنيدس وأفلاطون وسبينوزا وليبنتز وهيغل وبيركلي. وتضم المجموعة الثانية الفلاسفة الذين يقتنعون أن المعرفة تقتصر على الكلمات، وبين هؤلاء الفلاسفة الرمزيين والمنطقيين الإيجابيين. أما المجموعة الثالثة فتضم الفلاسفة الذين يصرون على معرفة لا يمكن التعبير عنها بكلمات، ويستخدمون الكلمات في إخبارنا ما هي هذه المعرفة، وتشمل الصدقيين وبيرغسون وفتغنشتاين، وأيضاً هيغل وبيركلي في بعض الجوانب، ويرى راسل أنه من الممكن إهمال هذه المجموعة الثالثة على أساس تناقضها الذاتي.

وفي نتيجة توصل إليها برتراند راسل ختم بها كتابه، رأى أن بعض الفلاسفة المحدثين يصرون على أننا نعرف الكثير عن اللغة، ولا نعرف شيئاً عن أي شيء آخر، وهذه النظرة بالنسبة إليه تتجاهل أن اللغة ظاهرة فعلية مثل غيرها، والإنسان الذي يوصف ميتافيزيقياً باللاأدرية، لا بدّ أن يُنكر أنه يعرف عندما يستعمل كلمة ما، أما بالنسبة إلى راسل، فيعتقد أنه باستطاعتنا الوصول إلى معرفة كبيرة فيما يتعلق ببناء العالم.

----

الكتاب: ما وراء المعنى والحقيقة

الكاتب: برتراند راسل

ترجمة: محمد قدري عمارة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008