يرجح الباحثون بأن "ملّا أحمد الجزيري" أو كما يسميه البعض بالجزري عاش بين عامي 1570- 1634م، والمؤكد بأنه من مواليد "جزيرة بوتان" الواقعة على ضفاف نهر "الدجلة" قرب جبل "جودي". ولقب بالجزيري نسبة إلى مدينته التي خرجت العديد من الشخصيات والملاحم مثل "مم وزين"، وأيضاً ينحدر منها العلامة "محمد سعيد رمضان البوطي".

كُتب عن الشاعر المتصوف الكبير "ملّا أحمد الجزيري" أو "الجزري" العديد من الدراسات، وألفت عنه كتب عديدة منها هذا الكتاب "الجزري.. شاعر الحب والجمال" للأديب "خالد جميل محمد". وفي الحقيقة جذبني الخوض في غمار هذا المؤلف لسببين، الأول هو إضاءة حول مسيرة "ملاي الجزيري" كما يسميه بنو جلدته، والثاني هو الدراسة المعمقة التي قدمها "خالد محمد" عبر ما يقارب مائتي صفحة، كشف فيها الغامض من اصطلاحات ترددت في شعر "الجزيري".

إتقان عدة لغات

درس "الجزيري" كأغلب الشعراء الصوفيين في تكايا الجزيرة ومنطقة الهكاري والعمادية وديار بكر، وأتقن العديد من اللغات. إلى جانب لغته الأم أتقن أيضاً الفارسية والعربية والتركية، ومن خلالها أصبح لديه معرفة كاملة في أصول الدين والفقه والحديث والفلسفة وعلم الكلام والنحو إضافة إلى الفلك. من المؤكد أن "ملاي جزيري" قد نظم قصائد تفوق بكثير مما ورد في ديوانه الذي تضمن مائة وإحدى وعشرين قصيدة، يغلب عليها طابع العشق الإلهي والغزل المادي البحت، حيث اعتبر قامة كبيرة في الشعر الصوفي.

شاعر الحب والجمال

وفي العودة إلى كتاب "الجزري- شاعر الحب والجمال" للكاتب "خالد جميل محمد" الذي يفصح بأن الهدف من هذا الكتاب أو الدراسة هو كشف الغامض من اصطلاحات ترددت في شعر "الملّا الجزري"، ولا ينفي الكاتب لقب "ابن الفارض" كفيلسوف الحب والجمال حيث يقول: "وإذ يطلق لقب "شاعر الحب والجمال" على "الجزري" في هذا الكتاب، فإنه لا يعني تجاهل "ابن الفارض" الذي اشتهر بلقب "فيلسوف الحب والجمال"، كما اشتهر بلقب عميد الحب الإلهي في التصوف الإسلامي ولقب سلطان العاشقين وإمام المحبين...، غير أن "الجزري" نفسه أخذ يفخر ويكشف عن ألقاب أحبها ورددها في ثنايا معانيه وعباراته، حيث نصب نفسه قائداً لموكب العشاق والمحبين، كما رأى أنه الشيخ الثاني في العشق بعد الشيخ صنعاني".

ويعرض الكتاب بعض الآراء حول شخصية (الجزري)، أغلبها تتمحور حول تاريخ ميلاده ووفاته، وفي هذا السياق يمكن أن نسرد رأي "فيليب كرين بوك"، وهو محاضر في اللغات الإيرانية الحديثة في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (soas) حيث يقول: "في أواخر القرن السادس عشر أو أوائل السابع عشر بدأ الملّا الجزري وهو شاعر من الجزيرة الواقعة على الحدود بين "تركيا" و"سورية" ويتحدث الكرمانجية، يكتب شعراً بلهجته الفرعية الخاصة".

ماهية الحب

قسم "خالد محمد" كتابه إلى عدة أبواب؛ وفي باب أسماه "الحب" يشرح ماهية الحب عند "الجزري"، يقول: "إن كان الشعر عنده عنواناً إلى جانب الوحدة المطلقة والجمال والسّكر والعرفان والوجد، فإن الحب هو ذلك العنوان بل هو الأول بينها... حيث شغله الحب وتحول عنده إلى تصوف فلسفي، وتجربة روحية مقترنة بالمعرفة وملازمة الجمال والسّكر الصوفي".

ويسرد كلاماً للجزري: الجمال الذي لا مثال له/ والحسن أشعل العشق من نور الأزل/ فكانا سراجاً وشمعةً قصدهما العشق كالفراشة...

ويرى بأنه جمع الجزري في حبه بين طريقة "ابن عربي" في الاستغراق في مشاهدة الجمال الإلهي المطلق الكامل، وبين طريقة "الحلاج" في الاستغراق في الحب الذي يترجمه الفناء، ولم يكن الحب عنده انفعالاً عاطفياً، إنما كان جامعاً للموجودات كلها، ويؤكد بأن "الجزري" قسّم الحب إلى نوعين أحدهما الحب الروحاني الذي عرّفه بأنه نار ونور، وثانيهما الحب الجسماني الذي عرّفه بأنه هوى زائل، ويستشهد بمقطع: المحبة الصورية قسمان/ إنهما قفل ومفتاح وطلسم/ بعض من الروح/ وبعض من الجسد/ بعض نار ونور/ وبعض هوى...

وفي الحب والجمال قال:

إن كان البلبل هو جوهر ذات الوردة/ فإن رونق الوردة هو من عشق البلبل.

الحب هو أصل العالم

وفي نظر صاحب كتاب "الجزري شاعر الحب والجمال" فإن "الجزري" يؤكد أن الحب هو أصل العالم، وأن العنصر الرئيس في تركيب الكائنات والأشياء هو هذا العنصر الروحاني النوراني الناري اللطيف، مستنداً إلى العديد من مقاطعه الشعرية منها:

أربعة عناصر (الماء، التراب، النار، الهواء)

وأربع طباع (الرطوبة، اليبوسة، الحرارة، البرودة)

اجتمعت معاً بميزان معين ومقدار ثابت

لكنها متخالفة في سيرتها في صورتها الشخصية

إن لم تجتمع وتتصل الأصول الأربعة بمقدار موزون ودقيق

فإن الأجسام لا تنفصل عن بعضها

ولا ينشق العضد عن العضد

إنها أربع أمهات وثلاث بنات (الحيوانات، النباتات، الجمادات)

لا ثبات لها ولا قرار

فهن ذوات عشق شديد وميل والتفات

في هذا الدير الحادث العتيق (الدنيا).

ويؤكد "خالد محمد" بأن هذه الأطروحة كانت جزءاً من تصوفه الفلسفي الذي ظهرت علاماته في معظم شعره، وخاصة في موضوع الحب، حيث أسند فيه أرضية معرفية وعلم بفلسفات الشرق والغرب قبل وإبان عصره.

بين الماء والحب

من المعروف أن أوائل من الفلاسفة قد تحدثوا عن مبدأ الكون والعالم الطبيعي مجتهدين في آرائهم وأفكارهم، وذهب قسم كبير منهم إلى عد العناصر مواد محسوسة يمكن إداركها، فقد توصل "تاليس" الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد أول الفلاسفة المعترف بهم في تاريخ الفلسفة الإغريقية، إلى أن الماء هو المادة الأولى، أما تلميذه "أنكسيمندر 610- 547 ق.م" فقد رأى أن الماء لا يصلح لأن يكون مبدأ أول، لأنه استحال الجامد أو البارد إلى سائل بالحرارة، فالحار والبارد سابقان عليه، ثم نادى بمبدأ "الأبيرون"الذي يمكن تعريفه باللامحدود أو اللانهائي، وفي هذه الاتجاهات وكما يقول "خالد محمد" يذهب "الجزري"حين يقول:

أسفاً أن يكون العارف نشيط الروح

مقيداً بالتراب والصلصال

إن أنارت تلك الروح الطاهرة من جديد

فإنه سيتجرد من تلك القيود

حتى تكون الروح دون حجب وستائر

يجب أن تنتهي قيود التراب والصلصال

كأنها بدر منير يوقعه التراب أحياناً في حالة الخسوف.

عوالم صوفية

ويمكن أن نختار من الكتاب أيضاً "مصطلح السُكر" الذي يعتبره ظاهرة روحية شغلت حيزاً هاماً من خطاب الجزري، فهذه الظاهرة جزء من عالمه الصوفي والشعري، حيث نعت الصوفية ومثلهم الجزري السكر بأنه يذهب بالعقل، وهو ما عبر عنه "ابن عربي" الذي أبعد العقل عن الحب، فذكر قول أحدهم "ولا خير في حب يدبّر بالعقل"، فالذهول والغياب عن النفس والغياب، وشل المدركات بعض من ثمرات اختراع خمرة المحبة التي يمثل الانتشاء بها واحداً من أسباب ارتقاء مقامات أعلى، أو دخول أحوال أسمى، مثل السالك في ذلك كمثل القطرة التي تعود إلى البحر وتتحد مع مائه على حد تعبير "الجزري"، مبيناً أنه تناول الخمرة من يد محبوبته، فغاب عن نفسه، قال:

شربت الخمرة من يدها

فغبت عن نفسي

وولجت في حالة سُكر

فقد دخَلت القطرة البحر

لكن البحر بقي على حاله.

ومن أقسام الكتاب نختار بعض مقاطع "الجزيري/ الجزري"، التي ترجمها الكاتب من "العقد الجوهري في شرح ديوان الشيخ الجزري" للشيخ أحمد الزفنكي، ولا بد من الإشارة بأن ما كتبه "ملّا أحمد الجزيري" منذ ما يزيد عن أربعمائة عام وكل ما يحتويه ديوانه هو أشعار موزونة، ولكن بحكم الترجمة التي قام بها الأستاذ "خالد محمد" إلى النثر، نستطيع القول بأنها شرح لأبيات كتبها "الجزري".

من قسم ثالوث الحب والجمال والسكر:

إذا كان المحبوب في القلب

فما حاجتنا إلى الصعود إليه؟

وإذا كانت العنقاء تأتي من تلقاء نفسها

فما حاجتنا إلى الطيران وراءها؟

وإن كان حبيبنا ليس ببعيد

فلم الصراخ والاستغاثة؟!

إنه ينصت إلى الباطن والضمير

ويطلع إلى السر، فما الحاجة إلى النداء والصراخ؟!

أخيراً استطاع الكاتب "خالد محمد" في مؤلفه هذا الدخول إلى عوالم "الجزري" وأن يبرز صوره الفنية والفلسفية ورموزه الصوفية، ساعياً إلى كشف جوانب أدبية لأشعار هذه الشخصية الكبيرة واستنباط جماليات نصه.

----

الكتاب: الجزري.. شاعر الحب والجمال

الكاتب: خالد جميل محمد

الناشر: دار الزمان، دمشق، 2006