هو مؤسس مدرسة التحليل النفسي، ويرجع له الفضل في اكتشاف الحقيقة الهامة المتمثلة بأن جزءاً كبيراً من حياتنا العقلية لاشعوري، وأن لهذا اللاشعور تأثيراً كبيراً على سلوكنا ومشاعرنا سواء في حياتنا السوية، أو فيما نتعرض له من اضطرابات وأمراض نفسية.

خلال السنوات الثلاث أو الأربع التي تلت العام 1915 والتي كانت أحلك سنوات الحرب، ظلّ عقل فرويد غير منتج نسبياً، فقد كانت الحياة اليومية البائسة شغله الشاغل، سنوات اتسمت بفترات اختبار، عاصر خلالها الحزن والقلق، وقد كانت فترة كمون فرضتها ضرورة إضفاء مزيد من التفصيل لما ظلّ عالقاً أو غير مكتمل في علم ما وراء النفس، وكأن ذلك العلم الذي كان خالياً من العيوب في نظره قد كشف الآن أنه لم يؤسس لنظرية تحليلية، بقدر ما وفر عمقاً جديداً لها. وكأن ذلك التفكير البعيد كل البعد عن حل ألغاز الحياة النفسية قد أضاف عمقاً لتلك الألغاز، ومن ثم فتح عقل فرويد لأحداث داخلية أكثر غرابة.[1]

مكتشف اللاشعور

وُلد طبيب الأعصاب النمساوي سيغموند فرويد عام 1856، ويرجع تاريخ اكتشاف فرويد للاشعور وما له من أهمية عظيمة في حياة الإنسان إلى وقت اشتغاله بدراسة مرض "الهيستريا" عام 1880، حيث توصل مع شريكه جوزيف بروير إلى نتيجة لهذه الدراسة تقول بأن الأعراض الهيستيرية تنشأ من ذكريات مكبوتة في اللاشعور، وأن هذه الأعراض تزول إذا ما استطاع المريض تذكر هذه الذكريات أثناء العلاج.

وعند فرويد فإن تقسيم الحياة النفسية إلى ما هو شعوري (إدراك حسي ذي طابع مباشر ويقيني جداً)، وما هو لاشعوري، هو الغرض الأساسي الذي يقوم عليه التحليل النفسي، وهذا التقسيم هو الذي يجعل من الممكن للتحليل النفسي أن يفهم العمليات المرضية في الحياة العقلية.[2]

الحرب ومعتقدات السلم

يعتبر فرويد أن الأمم يمثلها إلى حد ما الدول التي تصنعها، والدول تمثلها الحكومات التي تقوم عليها، وإن الفرد في هذه الأمم يجد في الحرب فرصة عظيمة ليقتنع بما يطرأ على ذهنه أحياناً أيام السلم، فالدولة لم تحظر عليه أن يرتكب إثماً، لا لأنها تريد أن تمحى هذه الآثام، بل لأنها تريد أن تحتكر ارتكابها لنفسها. وتسمح الدول المتحاربة لنفسها ارتكاب كافة الأعمال العدوانية وكل الآثام التي لو ارتكبها الأفراد لجللهم العار، وهي تنصب كل الحيل المعروفة ضد العدو، وتمارس الكذب والغش، وتطالب رعاياها بأقصى درجات الطاعة وأكبر التضحيات، وفي الوقت نفسه تضرب من حولهم سياجاً متيناً من السرية والرقابة على الأخبار، وتحظر عليهم التعبير عن رأيهم، ويجردهم هذا الاضطهاد الفكري من كل الدفاعات ضد تقلب الأحداث والإشاعات المغرضة التي تكون في غير صالحهم.

ويبين فرويد أن هذه الدول المتحاربة لا تخجل من الاعتراف بأنها تسعى لامتلاك القوة وتشتهيها بِنَهم، ومع ذلك فهي تطالب الفرد باسم الوطنية أن يقبل بما تسعى إليه وما تشتهيه، وترفض أن يقابل طلبها بالرفض، وتأبى الامتناع، وتتذرع بأن هذا الامتناع لن يكون لصالحها.

وعند فرويد فإن معتقدات السلم ضرورية لأنها تجنبنا من الأزمات العاطفية، وبها نكون أقدر على الإقبال على ما يرضي نزعاتنا ويشبع رغباتنا، ولا مبرر للشكوى من أن هذه المعتقدات هي في فترة الحرب "أوهام"، وعندما نشكو منها على أنها أوهام، فنحن نعلم أن خلف شكوانا سببين؛ الأول هو الإملاق الشديد الذي تعاني منه العلاقات الخلقية الخارجية بين الدول، علماً أن هذه الدول تقف حارسة على العرف الأخلاقي، والعامل الثاني هو ما يتبدى في سلوك الأفراد زمن الحرب من وحشية لا نصدق أنها تصدر عن أناس المفروض أنهم شركاء في صنع أسمى ما بلغته الحضارة الإنسانية من أشكال.

ويوضح فرويد أننا نفتقد في حالة الأمم عامل القسر التربوي الخارجي، الذي يجبر الفرد على الأخذ بالأخلاق والذي نجح في حالة الأفراد، حيث كان يأمل أن يكون التشابك الواسع للتجارة والإنتاج نواة هذا القسر الذي يجبر الأمم والمجتمعات الكبيرة على الأخذ بالأخلاق، لكن الأمم لا تزال أكثر استعداداً للانصياع لأهوائها الخالصة، وتوظف مصالحها في خدمة وتبرير أهوائها، والواقع أنه من المحير فعلاً تفسير الأسباب الحقيقية التي من أجلها تكره وتحتقر الأمم بعضها البعض، وتزدري كل منها الأخرى حتى في أوقات السلم، ولربما استطاعت مراحل التطور المستقبلية بطريقة ما أن تغير من هذا الواقع المؤسف، غير أنه يلزم أن يكون هناك مزيد من الصدق والاستقامة في التعامل الشخصي بين الأفراد وبين من يحكمهم، لأن ذلك يجعل التغيير الذي ننشده أسهل تحققاً وأقرب منالاً.[3]

الحضارة

وبحسب فرويد فإن الجمال والنظافة والنظام لها مكانتها الخاصة بين مستلزمات الحضارة، لكن هناك سمة واحدة تميز الحضارة أفضل من غيرها من السمات، وتلك هي القيمة التي تضفيها على الأنشطة الذهنية (الإنجازات الفكرية والعلمية والجمالية)، والدور القيادي الذي تنيطه بالأفكار في الحياة البشرية، ولعلّ أول وأهم هذه الأفكار هي النظم الدينية بتطورها المعقد، تليها التأملات الفلسفية، ثم المثل العليا التي صاغها الإنسان وتصوراته للكمال الذي يمكن أن يكون عليه الأفراد والشعوب والإنسانية ككل، والمتطلبات التي يبنيها على أساس تلك التصورات.

وإن أهم السمات التي تتصف بها الحضارة، هو قيامها على نوع من الزهد أو التعفف عن إشباع الغرائز، بل وجودها مشروط باللاإشباع، بالكبت الإرادي واللاإرادي للمتطلبات الغريزية القوية، ويسود هذا الحرمان الثقافي كل مجالات العلاقات الاجتماعية بين البشر، ونعرف أن هذا العوز في الإشباع هو سبب العدو الذي على الحضارة أن تحاربه، وهو الذي يفرض أهدافاً صعبة يجعلها غاية بحوثنا العلمية.[4]

----

المراجع

[1] فرويد، قراءة عصرية، روزين جوزيف بيرلبرج، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 135.

[2] الأنا والهو، سيغموند فرويد، دار الشرق للطباعة والنشر، ص 12- 12- 25- 26.

[3] الحب والحرب والحضارة والموت، سيغموند فرويد، دار الرشاد، ص 14- 15- 26.

[4] المرجع السابق، ص 60- 61- 63.