كثيرون لم يتوقعوا أن يحدث هذا الانسجام الشخصي القوي بين الفيلسوف جيل دولوز والمحلل النفسي فيليكس غواتّري حين تم اللقاء. ومن بين الأسئلة المشروعة, والتي ظلت مغمورة عند المشتغلين على فكر الفيلسوف جيل دولوز، سؤال طبيعة العلاقة المعرفية والإنسانية التي جمعته بالمحلل النفساني غواتّري لما يزيد عن العشرين عاماً.

من المشهور أن الفيلسوفين جيل دولوز وفيليكس غواتري "كانا من طبيعتين مختلفتين، ومن مرجعيتين فكريتين متباعدتين، فالأول، دولوز، فيلسوف كلاسيكي التكوين، ضاعن، صامت، انعزالي، كاره للأسفار وللحوارات. أما الثاني، غواتّري، فقد كان "مناضلاً" ثورياً صاخباً، مؤمناً بمنطق الحركة والفعل الجماعي، لا يشتغل إلا ضمن فريق". فما الذي جعل من رجلين متباعدين متعارضين إلى هذا الحد، ينخرطان في علاقة مثل تلك، والتي جعلتهما، كما هو معروف، يوقعان كتباً مشتركة، ويندغمان في اسم مركب واحد هو "دولوز-غواتّري"؟ وفي فترة تعارفهما كان دولوز حبيس مكتبه في جامعة ليون بسبب صعوبات تنفس كان يعاني منها. بينما كان غواتّري في قمة نشاطه الملتزم وكان للتو قد انفصل عن معلمه السابق جاك لاكان, بعد رفضه الالتزام بالخط الفكري الخاص بمجموعة لاكان النفسية. كان في التاسعة والثلاثين من العمر، ويعمل في عيادة "لا بورد" النفسية غير التقليدية في "لوار فالي"، حيث كان يشتغل على مجموعة تخيّل أثارت اهتمام دولوز. كان غواتري يعاني آنذاك من قفلة الكاتب Writer’s Block، ويأمل أن يساعده الفيلسوف على تجاوزها.

البعض قال إن السر وراء انسجامهما, يكمن في انعدام ثقتهما المشتركة في الهوية. فقد كانا صارمين في عدائهما للفردية, سواء في الحقل السياسي, أو العلاج النفسي, أو الفلسفة, وقد كافحا ليُثبتا أن الفردية هي مجرد خدعة استحضرت للتشويش على طبيعة الواقع. حيث طورا خطوطاً فكرية مضادة للهوياتية, ووضعا تصوراً لمستقبل لا يتربع فيه الفرد على العرش سيداً مطلقاً. وكتبا وحررا بطريقة حوارية تعايشية غريبة وغير مسبوقة. واشتغل الثنائي بطريقة افترضت وجود "مجتمع من تفكير, من وجود, ومن تفاعل مع العالم". فبدلاً من الدفع باتجاه استعادة الهويات المقهورة تاريخياً, حاول دولوز وغواتّري تفكيك الفروق التي عرفت وحددت الذات الفردية في حد ذاتها. وكانت النتيجة الخروج بسياسات متعة تقدمية مستوحاة من الماركسية ومضادة للرأسمالية, وهي سياسات تتعارض مع بعض أشكال سياسات الهوية السائدة في عصرنا.

في "أوديب- مضاداً", إحدى الكتب التي اشتركا في تأليفها, تُبنى فلسفة متعددة الأصوات والخطوط في ضرب من التسكع الذي لا مقر له. هذا وقد وضحا في هذا الكتاب العلاقة ما بين الرغبة والواقع, وتسييق مأزق الفلسفة والتحليل النفسي في إطار الحالة السياسية القائمة. بكلمات أخرى, كانا يريدان توضيح كيف تتفاعل الرغبة مع العالم المادي, وفحص كيفية اشتباكها مع السياسي. وفي "أوديب- مضاداً" نقرأ: "لا يدعو فقط إلى إصلاح داخلي للتحليل النفسي أو للمدارس التي وقعت فيها مأسسة إعادة إنتاج معارفه وممارساته، وإنما إلى تغيير أكثر جذرية لحقل التحليل النفسي. الغاية هي إجراء تغيير فيه لخلق روابط جديدة خارجه"، وبالتالي لا يتعلق الأمر بالبقاء في صلبه حتى لو كانت الممارسة تقدمية وثورية أو بنيوية داخله ولا بمواصلة ممارسة الطب النفسي نفسه حتى وإن كان مضاداً، لأن ذلك البقاء وتلك المواصلة يترصدهما أوديب والمثلث الأُسروي اللذان يمنعان من تكوين جماعات فاعلة خارج أطر التكيف الأُسروي والإدماج الاجتماعي، أي خارج "شرطة التكيف".

إن الثالوث الأسروي- الأوديبي هو "ثالوث مقدس يواصل خنق الإنتاج الراغبي وإخماد مشكلاته. المضمون السياسي والثقافي، التاريخي- العالمي والعِرقي، يظل مطحوناً في الرحى الأوديبية". ما يتوجه إليه دلوز وغواتري ليس هو إذاً نقداً جزئياً للتصحيح والتصويب أو الترميم، بل هو ممارسة تقويضية تبين التحالفات المؤسساتية الخفية التي يمتد بها التحليل النفسي ومكناته الأوديبية إلى مؤسسات التأديب والمراقبة والإنتاج الرأسمالي. يقول دولوز إن "ما نطعن فيه ليس هو أيديولوجيا قد تكون أيديولوجيا التحليل النفسي، بل هو التحليل النفسي ذاته في الممارسة وفي النظرية. وفي هذا الصدد لا تناقض في القول إن التحليل النفسي أمر عظيم وإنه انقلب منذ البداية منقلباً سيئاً. المنقلب المثالي كان حاضراً منذ البداية". ما هذا المنقلَب المثالي؟ "اختزال الإنتاج الراغبي في منظومة من التصورات المسماة لاواعية وفي أشكال من التحدث والتعبير أو الفهم المناظرة لها، اختزال مصانع اللاوعي في مشهد مسرحي مثل مشهد أوديب وهاملت، اختزال الاستثمارات الاجتماعية لليبيدو في استثمارات أُسَرية وتطبيق الرغبة على إحداثيات أُسَرية".

في كتابهما غامر دولوز وغواتّري إلى ارتياد أرض تكاد تكون مجهولة وحيث الفكر ليس تسلية ولهواً واستعراض معارف، بل هو مخاطرة كبرى تحمل إلى الأقصى بل وإلى تجاوز الحد، إنها معركة الأسفار والأسوار، بل معركة اختراقية قد نترك فيها عضواً من أعضائنا. إنها كتابة إعادة التنضيد والمغامرة والترحل، كتابة التنوع والتباين حيث لا وجود لشكل بل يوجد تَشكُّل، ومن هنا تنوع العبارة وجرأتها بل وتلعثمها في بعض الأحيان، كتابة رسم خطوط فيها تفسيرات وتحليلات وانبساطات ومعان تنشعب وتنفرع وتتعدد فيها الإحالات والمرجعيات، من الفلسفة إلى التحليل النفسي، من الطب النفسي إلى الإثنولوجيا، من الرسم إلى الأنثروبولوجيا، من التصوير إلى الاقتصاد السياسيّ.

إن الرغبة ليست فردية؛ ذلك ما كان مركزياً في أطروحتهما، فالرغبة تمر عبر الناس، تقودهم، ولكنها ليست بالضرورة في تلاق دائم مع المصلحة الشخصية المجردة. فعند محاولة تحليل طريقة عمل الرغبة في المجموعات الكبيرة، سيجد المرء أنها ليست كتلة واحدة ولا هي مجزأة؛ فالرغبة في جوهرها هي "نوع من البديهي الذي لا يمكن اختزاله في أي نوع من الوحدة"، ولا يمكن أن تُفهم إلا من خلال ما أسمياه بـ "التعدد"، التعدد غير الممكن تجزيئه إلى كينونات مكوِنة.

ولكن، وفي حين أن الرغبة ليست في تلاق دائم مع الفردي، فإن المجتمع الرأسمالي يفعل ما بوسعه لجعل كل الرغبات تمرمن خلال الفردي. كان فرويد من بين الأوائل الذين اشتغلوا على تشريح الرغبة، لكن عمله ركز على أمراض مرضاه الفردية، ولم يتفحص بشكل ملائم هذه الأمراض من خلال عدسات الفحص التاريخية. فالعصابية التي شخصها فرويد، والتي تستمر في الانتشار كوباء في القرن الواحد والعشرين، لم تكن تفتقر إلى سياقات تاريخية؛ بل على النقيض، فهي كانت نِتاج توّر الرأسمالية في اتجاهات تقييد، وتنظيم الرغبة، وتأديبها داخل أنماط ظهور محددة.

بطريقة ما، يمكن قراءة "أوديب مضادّاً" كنقد فرويدي لكارل ماركس؛ فقد فشل الخطاب الماركسي في تفسير دوافع لحظات من العمل الجمعي لأنه لم يفهم آليات عمل الرغبة، ولكن من الممكن إعادة تنشيطه من خلال استدخال المفهوم الفرويدي للرغبة. لكن، في الوقت نفسه، يذهب الكتاب في اتجاه أن يكون أيضاً نقداً ماركسياً معاكِساً لفرويد، لغاية تجديد التحليل النفسي من خلال استدخال الفهم الماركسي التاريخي للعمل. فكان نتاج الخليط الماركسي– الفرويدي التحليل النفسي الأنثروبولوجي الذي أسمياه بـ "التحليل الفصاميّ- Shizoanalysis" والممكن التفكير فيه بوصفه سردية لتاريخ الرغبة كقوة إنتاجية، وكقوة لا شخصانية ذات قدرة على خلق العالم.

وفي عودة إلى طبيعة عمل وتفكير كل من دولوز وغواتّري. عمل الأخير بداية من العام 1953 كمعالج نفسي, ومرة أخرى وجد نفسه غير قادر على احتمال هوس حقل العلاج النفسي بالأفراد. كان قد أنهى تدريبه مع جاك لاكان، أحد أكثر المحللين النفسيين تأثيراً منذ سيغموند فرويد، ولكن بدلاً من ممارسته للعلاج النفسي الخاص، فضل ممارسة العلاج النفسي في مستشفى عام كبير، حيث عمل مع مرضى ذُهانٍ محتجزين في المشفى. كان مشفى "لا بورد" مؤسسة تجريبية تعمل وفق خطوط عمل شيوعية؛ إذ كان الأطباء يساعدون في الأعمال اليدوية، بينما يعمل الموظفون والمرضى معاً للإبقاء والحفاظ على المشفى في حالة عمل جيدة. هناك بدأ غواتّري يعتقد أن ما يجعل المرضى مرضى ليس خلَلاً مرضيا معيناً، بل هو شكل من أشكال الاغتراب الاجتماعي، وهي مشكلة تزيدها سوءاً السلوكيات التي تجرد المرضى من إنسانيتهم، والتي ينتِجها نظام الطب التقليدي ويمارسها الأطباء، والممرضون، والممرضات.

تعارضت رؤية غواتري مع السائد في حقل العلاج النفسي؛ فتقليدياَ، كانت تقنيات العلاج النفسي قد صُممت لتتمحور حول محادثات ثنائية بين المعالِج والمعالَج. لذلك اعتبر الذُهان بشكل أساسي مرض غير قابل للعلاج؛ لأن أولئك الذين يعانونه لا يمكنهم الحفاظ على العلاقة التعاقدية الثنائية الضرورية بينهن وبين المعالج. ولمواجهة هذه المشكلة، ابتكر غواتّري طرقاً علاجية تقوم على المجموعات؛ من خلال تحويل المشفى بأكمله إلى أداة علاجية. فإن كان الذُهان فعلاً شكلاً من أشكال الاغتراب، إذن، كما رأى، فلن يكون علاجه ممكناً إلا من خلال التواصل الاجتماعي الذي لا يعتمد على تكوين حس قوي بالفردية، بل على قدرة مجموعة من الناس على العمل معاً.

بصفته معالِجاً ومنظماً سياسياً، ركز غواتّري جهوده في اتجاه خلق بيئة حاضنة للتعاون؛ إذ تضمنت تقنياته في "لا بورد" تشجيع المرضى على المشاركة في "أندية علاجية" فنية ومسرحية، تُمكّنهم من تكوين علاقات دائمة. اعتقَدَ غواتاري أنه عند محاولة منح الناس الأدوات اللازمة لتمكينهم من إعادة الاندماج بالمجتمع، يتوجب أولاً "بناء شكل جديد من الذاتية التي لا تستند إلى الفردية". في المجال السياسي، ادعى غواتّري أن "مرض الأحزاب الشيوعية المركزية لا يتعلق بسوء نوايا قادتها، بقدر ما يتعلق بالعلاقات المزيفة التي أنشِئتْ مع الحركات الجماهيرية". لم تكن مشكلة غواتري تتعلق بشخصٍ معين؛ سواء كان ستالينياً أو فصامياً، بل هي العملية نفسها، هي المشكلة التي تنقسم من خلالها المجموعات إلى وحداتٍ منفصلة كل واحدة عن الأخرى، وعن حيواتها الخاصة.

في تلك الأثناء, أي عام 1968كانت شوارع فرنسا تشهد هيجاناً ثورياً, ونظم الطلبة وعمال المصانع إضرابات عامة ضخمة وتظاهرات ضد القوى الرأسمالية المدمرة. كانت انتفاضة عفوية ولم تكن مدعومة لا من قبل مؤسسات عمالية نقابية ولا من قبل الحزب الشيوعي الفرنسي. كان غواتري شخصية مركزية في قلب الانتفاضة إضافة إلى كونه مُنظّماً, لكن معلمه لاكان رفض التظاهرات معتبراً أنها مجرد هستيريا. كانت تلك لحظة خيانة بالنسبة إلى غواتري, فإن لم يكن الحزب الشيوعي قادراً على إدراك الثورة تحت أنفه, وإن كان لاكان يرفض استيعاب قوة الرغبة الجمعية عندما فاضت وسالت عبر الشوارع, هنا لا بد من فعل شيء آخر. في تلك الأثناء تعرف غواتري على دولوز ووجد فيه رديفه الفكري الذي سيمكنه من تحقيق غاياته العلاجية والسياسية. بينما الفكر عند دولوز ليس تمثيلياً, أي أنه لا يشتغل على بناء صور للعالم يمكن الحكم عليها إما خاطئة أو صحيحة بناء على درجة دقتها, بل النقيض من ذلك, فالفكر إبداعي, ودائماً على اتصال مع الشيء المفكر فيه. واتخذ من التماثل ومن الدقة معاييراً أساسية لحكمه.

يمثل أفلاطون وديكارت مثالين جيدين على ذلك. فقد زعم أفلاطون أن اكتساب أي كينونة معينة لصفاتها يأتي من كونها انعكاساً لشكلها المثالي, لشكلها المجرد. وهذا الشكل الذي يتطابق مع نفسه فقط, يُؤخذ أساساً للمعرفة. الانسان إنسان طالما يُمثل شكله المثالي, وأن يُعرف الانسان, يعني أن يُعرف ما هو شكل (الانسان) وبالمثل شكلت مقولة ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود" على مركزية الهوية والفرد. فالقدرة على معرفة النفس تُسهل القدرة على أي معرفة أخرى, وهكذا في كلتا الحالتين, يكون ثمة شيء خاص بوصفه أساساً للفهم, شيء فردي ثابت ولا يتغير, بكلمات أخرى, يكون الفرد/ الفردي أنموذج الحقيقة. واعتقد أن الفكر ليس متجذراً في الهوية, بل ينتج عن الاختلاف "لا يمكن للتمثيل التقاط عالم الاختلاف البديهي"، وبالتالي علينا إيجاد طريقة جديدة للتفكير في الأشياء, طريقة جديدة للتفلسف لا تتخذ من الهوية أساساً لها. في الواقع, فإن ما يظهر لنا من خلال التجربة على أنه منفرد, سواء أكان حجراً مفرداً أو شخصاً مفرداً, فإنه يكتسب هويته فقط نتيجة للصراع الدائم ما بين عدد من القوى المتنوعة. ليس ثمة وصفه بالفكرة المجردة عن "حجر" ما, بل ثمة عدد من الأحجار تختلف عن بعضها البعض مثلما يختلف طائر ما عن الشجرة. فالعالم مؤلف من الاختلافات, لا المفردات/ الأفراد.

أثار "أوديب مُضادّاً" الكثير من العداء؛ فقد كان لاكان غاضباً ومنع أي مناقشات تتناول الكتاب في المحاضرات، وفي حين كان العديد من السياسيين اليساريين متعاطفين مع غايات دولوز وغواتّري، إلا أنهم حذروا من تهورهما وهرطقاتهما. وعلى الرغم من، أو ربما بسبب هذه الانتقادات، حقق الكتاب نجاحاً فورياً، فنفدت طبعاته خلال أيام.

----

الكتاب: الرأسمالية والفُصام 1، أوديب – مضاداً

الكاتب: جيل دولوز وفليكس غواتّري

ترجمة: عبد العزيز العيادي

الناشر: دار الجمل، 2021