يرى عالم الاجتماع الإنكليزي المعاصر أنتوني غدنز أن علم الاجتماع يمكننا من رؤية العالم الاجتماعي من وجهات نظر غير ما لدينا، وإذا فهمنا أسلوب حياة الآخرين بشكل صحيح، فإننا سنكتسب فهماً أفضل لطبيعة ما يواجهونه من مشكلات.

يقدم البحث الاجتماعي مساعدة عملية في تقييم نتائج المبادرات السياسية، كذلك يستطيع علم الاجتماع أن يزودنا بالتنوير الذاتي وتعميق فهمنا لأنفسنا، فكلما زادت معرفتنا بالبواعث الكامنة وراء أفعالنا وبأساليب عمل المجتمع الذي نعيش فيه، تعززت مقدرتنا على التأثير في مستقبلنا.

ومن أوائل المنظرين في علم الاجتماع أوغست كونت، وتعطى له الأولوية في هذا المجال، كونه ابتكر للمبحث الجديد اسمه الشائع (علم الاجتماع/ سوسيولوجي)، وقد وضع كونت أول الأمر لهذا الموضوع تسمية "الفيزياء الاجتماعية"، إلا أن بعض منافسيه المثقفين كانوا يستخدمون هذا المصطلح، فحاول كونت أن يميز آراءه عن مفاهيمهم، فنحت مصطلح "علم الاجتماع" لوصف ميدانه البحثي.

كذلك إميل دوركهايم الذي تركت كتاباته أثراً أهم وأبقى في علم الاجتماع، وهو صاحب المبدأ الأول الذي وضعه لهذا العلم (فلندرس الحقائق والوقائع الاجتماعية باعتبارها أشياء)، كما اتسمت كتاباته بالاتساع؛ حيث شملت موضوعات أساسية ثلاثة هي (أهمية علم الاجتماع باعتباره علماً إمبريقياً تجريبياً، وبروز الفرد ونشوء نظام اجتماعي جديد، والنظام الأخلاقي في المجتمع من ناحيتي أصوله وطبيعته).

أما كارل ماركس فقد كان حريصاً على ربط المشكلات الاقتصادية بالمؤسسات الاجتماعية، وحرصه هذا أثرى الطروح السوسيولوجية التي تضمنتها مؤلفاته العديدة. ومثله ماكس فيبر الذي شملت اهتماماته وهمومه طائفة واسعة من الموضوعات.

ويبين غدنز أن علم الاجتماع برز بوصفه جهداً فكرياً متميزاً مع ظهور المجتمعات الحديثة، ولا تزال دراسة هذه المجتمعات تستأثر بالجانب الأكبر من اهتمامه، لكنه بالنسبة إليه ليس فقط مجرد جهد فكري تجريدي، بل ينطوي على مضامين عملية لحياة الناس. لذلك يرى أن تدرب المرء ودراسته لعلم الاجتماع لا يمثلان جهداً أكاديمياً جامداً، وأفضل السبل للحيلولة دون ذلك، هو التصدي لمعالجة الموضوع بأسلوب خلاق مبتكر، وربط الآراء والنتائج الاجتماعية بالأوضاع والمواقف التي يواجهها المرء في حياته.

علم اجتماع الجسد

يوضح غدنز أن دراسة الحياة اليومية في أوضاع التفاعل الاجتماعي الوجاهي تسمى في العادة "علم الاجتماع المصغر" (المايكروسوسيولوجي)، حيث يجري التحليل في هذا النوع على مستوى الأفراد أو الجماعات الصغيرة، مما يميزه عن "علم الاجتماع الكلي" أو (الماكروسوسيولوجي)، الذي يعنى بدراسة الأنساق الاجتماعية الكبرى مثل النسق السياسي أو النظام الاقتصادي، كما يتضمن هذا النوع تحليل عمليات التغيير البعيدة الأمد، وقد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تمييزاً بين علم الاجتماع المصغر والكلي، غير أن هذين النهجين الدراسيين مترابطان كل الترابط ويكمل أحدهما الآخر.

ويشير غدنز إلى أن علم اجتماع الجسد، وهو من ميادين البحث الجديدة نسبياً في علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية عموماً، وفي هذا الميدان يجري استقصاء الطرق والأوجه التي يتأثر بها الجسم أو الجسد البشري بالعوامل والمؤثرات الاجتماعية.

عملية التغيير

يرى غدنز أن البحث الاجتماعي يتجاوز حدود الأوساط والمجالات التي تضم العلماء الاجتماعيين والنخب الثقافية في المجتمع، ذلك أن نتائج الدراسات السوسيولوجية غالباً ما تنشر وتشيع بين الناس على اختلاف مشاربهم ومنابتهم الاجتماعية، ويؤكد على أن علم الاجتماع ليس مجرد دراسة المجتمعات الحديثة، فهو عنصر مهم في الحياة المستمرة لهذه المجتمعات، وعامل مؤثر في مسيرة التغيير المجتمعي.

وصحيح أن جانباً كبيراً من النتائج التي تخلص إليها البحوث والدراسات الاجتماعية المنهجية قد يدخل في باب المسلمات والبديهيات التي تواضع عليها أغلب الناس، غير أن لمثل هذا الرأي وجهاً آخر يتمثل في تأكيد الدور الذي تقوم به الدراسات الاجتماعية في تعميق الفهم للواقع الاجتماعي، تمهيداً للإسهام في عملية التغير والتبدل والتحول في حياة المجتمع بصورة عامة.

الانعكاسية الاجتماعية

يقول غدنز: "نعيش اليوم في عالم منفلت تحف به المخاطر، غير أنه علينا أن نضيف مفهوم الثقة إلى جانب المخاطر، وهي الآمال التي نعقدها على الأفراد والمؤسسات في مجتمعاتنا الحديثة، لكن عنصر الثقة أخذ بالاندثار مع جملة التحولات المتسارعة في مجتمعاتنا المحلية، وتزايد مظاهر العولمة في حياتنا المعاصرة، والثقة تعني أن نعقد الأمل على (أنساق مجردة)، لا نعرفها معرفة وثيقة لكنها تؤثر تأثيراً مباشراً في حياتنا، وحيث أن الثقة والمخاطرة ترتبطان ارتباطاً وثيقاً، فإنه علينا أن نكن الثقة بمنظومة واسعة من الهيئات التي تؤثر في حياتنا لنستطيع مواجهة المخاطر، وإن معيشتنا في عصر المعلومات الحالي تعني زيادة في مستوى "الانعكاسية الاجتماعية"، ويشير هذا المفهوم إلى أننا نقوم على الدوام بالتفكير في الظروف التي تكتنف حياتنا وفي تأملها والتمعن فيها، بما في ذلك أنماط السلوك والممارسات والأفكار التي نزاولها أو نحملها في حياتنا اليومية".

----

الكتاب: علم الاجتماع

الكاتب: أنتوني غدنز

ترجمة: فايز الصياغ

الناشر: المنظمة العربية للترجمة