تثير عبارة نستخدمها مراراً وتكراراً في حياتنا اليومية الإنسان حيوان عاقل، من دون أن تثير لدينا تساؤلاً أو نقاشاً، فالعقل هو ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات، وهو خاصية إنسانية بامتياز بغض النظر عن مصدر هذا العقل.

سرعان ما تهتز كلمة العقل حين نقرأ لبعض الفلاسفة والمفكرين حول العقل والوعي ونظرياتهم في المعرفة، وهذه الكتابات الفلسفية تقوم على "نقد العقل"، ما يدفعنا لتساؤلات مثل: هل نقد العقل ممكن؟ أو ليس النقد عملية عقلية؟ وهل يمكن للعقل أن يصبح موضوعا لذاته؟ ألا يتطلب نقد الشيء الوقوف على مسافة منه؟

يصر الكاتب محمد يغان في دراسته الفلسفية المعنون "وحدة العقل البشري" على أن الوعي والفكر موضوعاً لذاته، كون هذين المفهومين الوعي والفكر وعلى مستوى الحدس يوحيان بما يمكن أن يكون موضوعاً وما يمكن أن يكون ذاتاً، ويوحيان بالتعدد، فهناك مستويات وأشكال من الوعي والفكر متباينة، مما يمكن بالتالي نقد مستوى معين من الوعي والفكر انطلاقاً من مستوى آخر ليس بالضرورة متقدماً على الأول. وكلمة العقل توحي المستوى الحدسي بذات أكثر مما توحي بموضوع، أو وحدة دون تعدد، فالعقل هو هبة للإنسان كنوع، سواء اعتبر البعض هذه الهبة من الطبيعة أم من الخالق، عدا ذلك يصبح العقل خاصة تفرق بين أجناس البشر. وعليه فإن تمرير مفهوم العقل من قبل هؤلاء المفكرين على أنه موضوع بالإضافة إلى ذات، على أنه متعدد لا واحد مشترك، يحتاج منهم إلى بعض الجهد.

من هنا يرى الكاتب أن أي بحث يدور حول نقد العقل، يبدأ بتقديم تعريفات إجرائية، وأشهر هذه التعريفات ما يفصل مفهوم العقل إلى قسمين، عقل مكوِّن وعقل مكوَّن. وبهذا يصبح العقل حسب ما توحيه التسمية الثانية موضوعاً لذاته وقابلاً للنقد بعد أن تمت مماهاة العقل مع منتجاته وإسقاط التسمية الأولى من الاعتبار وما يترتب عليه من نتائج. فالنقد هو منتجات العقل، للمعرفة، والمعرفة قائمة على نماذج تأتي من الفكر والتجرية، وتخضع للتعديل بهما، وهي تاريخية بامتياز وخاضعة لظروف الزمان والمكان. في المقابل فإن مفهوم العقل حدسياً يوحي بالتمايز والاستقلالية عن المحيط، وهو شديد الذاتية ومكون رئيس لمفهوم هوية وإنسانية الإنسان. ومن جانب آخر، فإن من نتائج النقد، التصنيف والتمييز، أي هناك عقل ناضج وآخر بدائي، عقل متطور وآخر متخلف إلى ما هناك من تصنيفات ممكنة. وهنا تكمن الخطورة والمشكلة، فهذه الصفات سرعان ما تدخل في تعريف "أنواع من البشر" يكون التخلف والبدائية وغيرها من النعوت العقل، وتمرير منتجه وتناسي العقل المكوِّن وإبعاده عن الصورة، يقود بالضرورة إلى أن يصبح تصنيف البشر على أساس شكل ونوع العقل ممكناً.

وبغية طرح وحدة العقل البشري، قدم الكاتب محمد يغان تعريفاً لمفاهيم متداخلة ومتقاطعة التي تدل كلمات العقل والفكر والثقافة ومعالجة هذه المفاهيم، إذ لا بد من تعريف العقل البشري وتفصيل ماهيته لنتمكن من طرح فكرة "وحدة العقل البشري" وتماثله بين كافة أصناف البشر بغض النظر عن الفروق في العرق أو الدين أو اللغة. والعقل كمفهوم عام حدسي يتشكل في الذهن البشري نتيجة لتطور الوعي، وعرضة لأن يفقد صلاته مع جذوره الموضوعية، ومن ثم نسبته إلى أصول ميتافيزيقية مفارقة كنتيجة لانحراف الوعي الإنساني عن جادة الصواب مثل الانتقال من مستوى الحدس للمفهوم إلى مستوى الفكر الموزون، أي الانتقال من مستوى الإيمان إلى مستوى العلم يكون بتعريف المفهوم طبقاً لما تمليه طبيعة الموضوع. والتعريف لا يكون عشوائياً وإلا فسد البحث العقلي من بداياته وتحول إلى مرافعة تبريرية لموقف مسبق، فالمفهوم بشكل علمي صحيح يصبح مصطلحاً ويوظف في البحث العلمي بحيث تكون نتيجة البحث قاطعة ولا تحتمل الخلاف والجدال. أما التعريف الانتقائي فهو عملية تزوير للواقع بغية المصادرة على نتائج البحث من البدايات كما هي وظيفة الفكر التبريري.

الكتاب يحمل رؤية بدعة البحث عن الأصل المعجمي للمصطلح ومصدر اشتقاقه، مما ينفي الطبيعة التاريخية والموضوعية للمصطلح وترسخه في المداولة، فإذا ما تباعد المفهوم بمحتواه ودلالاته العصرية عن الأصل المعجمي، يكون الحكم غريباً، مستورداً، طارئاً، لم ينبت في بيئتنا، وإن من يقول به واقع تحت تأثير غزو ثقافي. وهكذا يصادر هؤلاء المولعون بهذه البدعة على المطلوب، وهو ببساطة أننا في الأصل خارج الفكر الإنساني الحديث، وتلصق بنا من الصفات ما تيسر مثل السلفية والغيبية والمعيارية..إلخ.

كذلك يطرح الكتاب مناقشة موضوعات المفهوم الحدسي والفكر التبريري بشكل مفصل، والمفاهيم بشكل عام، القائمة على شبكة متداخلة من المعطيات الحسية والعقلية، وتتفاوت درجة وضوح هذه المعطيات كما وتتقاطع عدة مفاهيم فيما بينها جاعلة مهمة تعريف المفهوم قيد البحث بدقة، عملية صعبة دائماً وشبه مستحيلة أحياناً، فإن كانت عملية التعريف ممكنة في العلوم الدقيقة إلى هذه الدرجة أو تلك من الدقة، فهي تكاد تكون مستحيلة في بعض فروع العلوم الإنسانية، وبالتالي تصبح هلامية ولا تحدد المفهوم مدخلاً لتمرير قناعات مسبقة لدى الباحث في ثوب من العلمية المزيفة. وهذا ما يفسر سهولة ترجمة المصطلحات العلمية من لغة إلى أخرى، كون هذه المصطلحات قد تحددت تحديداً دقيقاً بحيث تم تعريف المفهوم تعريفاً علمياً، وبالتالي فإنّ المصطلح في اللغة المقابلة وإن كان على المستوى الحدسي لا يقدم نفس الدلالات التي يقدمها المصطلح المستخدم في اللغة الأصل، إلا أنه يفيد نفس المعنى العلمي تماماً. وهكذا فإن "الارتهان للترجمة" هو ظاهرة تخص المفاهيم بمستواها الحدسي، بمعنى أن المصطلح المستخدم في اللغة الأصل سينير دلالات مختلفة في ذهن أهل اللغة نفسها، ناهيك عما سيثيره من دلالات في أذهان أهل اللغة المقابلة ما لم يتم رفعه إلى مستوى المصطلح العلمي. والكاتب يوضح كيف أن اللوغوس مثلاً، حين تم تعريفه رواقياً أمكنت ترجمته إلى "العقل الكلي"، وعند تعريفه فيثاغورياً، تمت ترجمته إلى "النسبة الحسابية".

أخيراً إن كتاب "وحدة العقل البشري" يؤكد أن الثابت الوحيد هو الإنسان، وإنسانية الإنسان، فمنذ بدايات الوعي الإنساني، ظهرت إرادة الإنسان للارتقاء نحو الجمال، سواء كان في بحثه عن الخلود أو عن الحكمة، أو عن السعادة التي سُلبت منه، أو الحقيقة الدائمة الهروب إلى الإمام، وقصة هذا الإنسان هي واحدة زماناً ومكاناً وبغض النظر عن الراوي، فالإنسان واحد وعقل الإنسان واحد.

----

اسم الكتاب: وحدة العقل البشري

اسم المؤلف: محمد فيصل يغان

الناشر: دار فضاءات، 2010