يبين الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "الآراء والمعتقدات" أن المعتقد والمعرفة أمران نفسيان يختلفان من حيث المصدر اختلافاً تاماً، فالمعتقد كناية عن إلهام لاشعوري ناشئ عن علل بعيدة عن إرادتنا، والمعرفة عبارة عن اقتباس شعوري عقلي قائم على الاختبار والتأمل.

تغيرت صورة فهم الكون عند الإنسان منذ أن اقترب من دائرة المعرفة، لكنه يصعب الخوض في هذه الدائرة الجديدة كثيراً، لأن العلم يرى على الدوام شيئاً من المجهول متخللاً في مكتشفاته، فأكثر الحقائق وضوحاً تُبطن شيئاً من الأسرار.

والمعرفة عند لوبون هي عنصر الحضارة الأساسي، وهي العامل الكبير في ارتقائها المادي، أما المعتقد فهو الذي يرسم وجهة الأفكار، ومن ثم وجهة السير.

ومصدر المعتقدات اللاشعوري وغير الإرادي يمنحها قوة عظيمة، فللمعتقدات -دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية- شأن كبير في التاريخ، إذ لا تلبث المعتقدات بعد أن تصير عامة أن تصبح قطوباً جاذبة تجذب حولها كيان الشعوب، وتطبع سمتها على كل عنصر من عناصر حضارتها، ومتى صار المعتقد قطباً جاذباً، أصبح قطب تغيير أيضاً، لأن عناصر الحياة المختلفة من فلسفة وفنون وأدب تتبدل لتلتئم به. وبما أن دائرة المعرفة تختلف عن دائرة المعتقد، فمن العبث أن نقيس الأولى بالثانية كما يفعل أكثر العلماء.

تقلبات الحس

يرى لوبون أن تقلبات الحس في الفرد محدودة زماناً واتساعاً، ومما يغير الحس على الخصوص تغييراً متتابعاً هو المرض والبيئة والحوادث. وهذه التقلبات المستمرة هي التي توضح لماذا تتحول أذواقنا وأفكارنا وآراؤنا على الدوام، كما أن التقلبات تكون أشد من ذي قبل عندما تأخذ العادات والمعتقدات الموروثة التي تحدد تقلبات الحس في الأفول، فعدم الثبات عند ذلك يصبح قاعدة.

ومن علل الآراء ما يحدد تقلبات الحس أيضاً، ونستثني من هذه العلل العدوى النفسية التي تحدث عادات مؤقتة قادرة على منح تنقلنا شيئاً من الثبات. ومتى أصبح حس المجتمع على شيء من الرسوخ المؤقت، فإن آثاراً مختلفة تؤلف معبرة عنه، وتعد هذه الآثار مرآة الزمن.

وغاية الحركة في الإنسان هي البحث عن السعادة (طلب اللذة وطرد الألم)، وعلى هذا المبدأ اتفق الناس، ومن أمل السعادة التي يتخيلها والمعتقدات التي هي عنوان ذلك الأمل تتكون قوة هذا الشعب، فمثل الشعب الأعلى يتولد معه، وينمو بنموه ويموت بموته. ومهما تكن قيمة ذلك المثل الأعلى، فإنه يمنح الشعب الذي يعتنقه منعة عظيمة، وهذه المنعة تكون على نسبة تأثير المثل الأعلى، وإن كانت وعود هذا المثل قليلة.

المنطق وأنواعه

يقسم لوبون المنطق إلى خمسة أنواع هي: منطق الحياة (الذي يسيطر على بقاء الأنواع وأشكالها، ويجري حكمه بعيداً عن تأثير إرادتنا، ويأتي بمطابقات تسير بفعل قوى لا نعرف عنها شيئاً)، والمنطق العاطفي (وهو يختلف عن منطق المشاعر، كما أنه يقودنا في أكثر أعمالنا)، ومنطق الجموع (ويتضمن ما يشاهد الجموع من أصول ومبادئ)، والمنطق الديني (لا يختلف عن المنطق العاطفي بكونه شعورياً اختيارياً فقط، بل بتسبيبه أعمالاً تناقض أعمال المنطق العاطفي مناقضة تامة)، وأخيراً المنطق العقلي (وهو فن التأليف بين الأفكار، والتمييز بين ما تشابه وما اختلف منها، وعنه بحث علماء النفس ووضعوا كتباً عديدة). وأنواع المنطق هذه قد تتنضد أو تتحدد في الأشخاص أنفسهم، وقد يتغلب أحدها على الأخرى بحسب الزمان والشعوب من غير أن يبطل عملها تماماً.

وسائل الانتشار

يرى لوبون أن تكوين الآراء والمعتقدات لا يستلزم سوى القليل من العوامل، فعوامل العرق والبيئة والعدوى تكفي لإنشاء المعتقدات العظيمة، وعاملا الانفعال والمنفعة الشخصية يكفيان لتكوين الآراء اليومية، ومع ذلك فإننا بحسب لوبون مكرهين على البحث دائماً عن عوامل أخرى، ذلك لأن هذه العوامل إذا لم تكن ذات تأثير على الدوام، فإنه ليس فيها ما هو غير مؤثر في أي الأوقات.

وبالنسبة إليه أيضاً فإن للأخلاق شأناً عظيماً للغاية في تكوين الآراء والمعتقدات، وإلى جانبها هناك المثل الأعلى للأمة، كذلك الاحتياجات التي يعتبرها لوبون من أكبر العوامل في تكوين الرأي وكل تطور اجتماعي، كما أن للمنفعة في تكوين آرائنا تأثيرها الكبير، وإن تقلبات الرأي دائماً ما تتبع لتقلبات المنفعة بحكم الضرورة. وللحرص عند لوبون دوره كذلك، فهو مصدر الآراء والمعتقدات والحركة.

لكن في المقابل فهناك عوامل خارجية لتكوين الآراء والمعتقدات منها التلقين، والانطباعات الأولى، والاحتياج إلى التفسير، والألفاظ والصيغ والصور، والأوهام، والضرورة. وهذه جميعها خصص لوبون لشرحها صفحات من كتابه.

كذلك ركز على دور التوكيد والتكرار كعامليين قويين في تكوين الآراء وانتشارها، وإليهما تستند التربية في كثير من المسائل، وبهما يستعين رجال السياسة والزعماء في خطبهم، ومثل التوكيد والتكرار فاللمثال دوره كذلك في تكوين الآراء، وهو أحد وجوه التلقين الفعالة، وله وقعه وتأثيره في النفوس.

لكن لوبون اعتبر أن من أبرز وأكثر العناصر الأساسية في انتشار الآراء والمعتقدات هي العدوى النفسية، والتي تدفع الإنسان بقوتها لأن يضحي بأكثر منافعه الشخصية.

كذلك من أهم وسائل انتشار الآراء والمعتقدات الطراز والذي يؤثر في جميع عناصر حياتنا الاجتماعية، تضاف إليه الكتب والجرائد والإعلان وغيرها من وسائل الانتشار.

----

الكتاب: الآراء والمعتقدات

الكاتب: غوستاف لوبون

ترجمة: عادل زعيتر

الناشر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة