اتبع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كتابه "ميتافيزيقا الأخلاق" منهجاً يقول إنه رآه أنسب المناهج حين يسير الإنسان من المعرفة المشتركة إلى تحديد مبدئها الأعلى بطريقة تحليلية، وحين يعود فيسير بطريقة تركيبية من امتحان هذا المبدأ ومصادره، إلى المعرفة العامة التي سيتم تطبيقه عليها.

يبيّن كانط في كتابه أن الإرادة عندما تبحث عن القانون الذي من شأنه أن يعينها في شيء آخر غير صلاحية مسلماتها، لوضع تشريع كلّي عام يصدر عنها متجاوزة ذاتها، فإن التبعية هي التي تنتج عن ذلك دائماً. وعندئذٍ فإن الموضوع هو الذي يعطيها القانون عن طريق العلاقة التي تربطه بها. وهذه العلاقة سواء أقامت على الميل أو على تصورات العقل، لا تسمح إلا بقيام الأوامر الشرطية، بمعنى أنه "عليّ أن أفعل هذا الشيء لأنني أريد شيئاً آخر"، على العكس من الأمر الأخلاقي الذي يقول: "إنه عليّ أن أفعل على هذا النحو أو ذاك، حتى لو لم أرد شيئاً آخر".

ويرى كانط أن الإرادة الخيرة التي يجب أن يكون مبدؤها أمراً أخلاقياً مطلقاً، هي إرادة غير متعينة بالنسبة إلى جميع الموضوعات، ولن تشتمل إلا على صورة فعل الإرادة بوجه عام بوصفه استقلالاً ذاتياً، أي أن صلاحية المسلّمة عند كل إرادة خيرة لأن تجعل من نفسها قانوناً كلياً عاماً، هذه الصلاحية هي نفسها القانون الوحيد الذي تلتزم به إرادة كل كائن عاقل، من دون أن تلجأ إلى أي دافع أو منفعة لتجعل منه مبدأ ترتكز عليه.

والإرادة، كما وضحها كانط في كتابه، هي نوع من العلية تتصف به الكائنات الحية من حيث هي كائنات عاقلة، والحرية هي الخاصية التي تتميز بها هذه العلية، فتجعلها قادرة على الفعل. وعلى الرغم من أن الحرية في الحقيقة هي ليست خاصية تتصف بها الإرادة وفقاً لقوانين الطبيعة، فلا يمكن أن توصف لهذا السبب بأنها مجردة عن كل القوانين، بل الأَولى أن يُقال إنها يجب أن تكون علّية تسير في أفعالها وفقاً لقوانين لا تتحول، وإن كانت هذه القوانين من نوع خاص، وإلا لكانت الإرادة الحرة شيئاً محالاً.

وبالنسبة إلى كانط، فالإنسان بوصفه كائناً عاقلاً لا يمكنه تصور علّية إرادته الذاتية إلا من خلال فكرة الحرية، ذلك لأن الاستقلال عن العلل المعينة في العالم المحسوس هو الحرية بعينها، وفكرة الحرية مرتبطة بتصور الاستقلال الذاتي ارتباطاً لا ينفصم، كما أن تصور الاستقلال الذاتي مرتبط بالمبدأ الشامل للأخلاق الذي يُعد من الناحية الفكرية الأساس الذي تقوم عليه جميع أفعال الكائنات العاقلة، مثلما يُعد القانون الطبيعي الأساس الذي تقوم عليه جميع الظواهر.

إن افتراض حرية الإرادة لدى الكائن العاقل يترتب عليه بالضرورة الاستقلال الذاتي لإرادته، من حيث هو الشرط الصوري الوحيد الذي يتيح لها أن تتعيّن، وإن افتراض حرية الإرادة هذه ليس أمراً ممكناً فحسب، بل إن التسليم بها من الناحية العملية (أي جعلها بالفكرة شرطاً تقوم عليه جميع أفعاله الإرادية) أمر ضروري يحتم على الكائن العاقل الذي يشعر عن طريق العقل بعلّيته، كما يشعر نتيجة لذلك بإرادة أن يفترض وجودها من دون أن يقيده بشرط آخر.

أما كيف يتيسر للعقل الخالص دون دوافع أخرى أياً كان المصدر الذي تستمد منه أن يصبح بذاته عقلاً عملياً، فذلك يعجز كل عقل بشري عجزاً مطلقاً عن تفسيره، وكل جهد يُبذل في البحث عن تفسير له هو جهد ضائع.

----

الكتاب: تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق

الكاتب: إيمانويل كانط

ترجمة: عبد الغفار مكاوي

الناشر: الجمل