التراجيديا هي محاكاة لفعل جاد كامل ذي حجم معين، في لغة منمقة تختلف طبيعتها باختلاف أجزاء المسرحية، وبواسطة أشخاص يؤدون الفعل عن طريق السرد، وبحيث تؤدي إلى تطهير النفس عن طريق الخوف والشفقة بإثارتها لمثل هذه الانفعالات.

يعتبر كتاب "مولد التراجيديا" أول الكتب التي ألفها الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه، وكانت طبعته الأولى بتاريخ 2 كانون الثاني 1872وقد صدرت بعنوانها الكامل "مولد التراجيديا من روح الموسيقا"، ثم طبعت الطبعة المعدلة بعد عدة سنوات وأخذت عنوان "مولد التراجيديا".

وتتعلق التراجيديا عموماً باستعراض حدث يثير انفعالات الألم التي غالباً ما ينتهي بالموت، وذلك من أجل كشف الجانب المأساوي للحياة. وغالباً يكون بطل هذا الحدث ذا مكانة عالية في الوسط الذي ينتمي إليه؛ فالتراجيديا حسب نيتشه تعمل على إثارة مشاعر التحدي وبها تمحق مشاعر الخوف والشفقة وتطهر النفس من هذه الانفعالات.

التراجيديا في أصلها اليوناني مركبة من جزأين هما: "تراخوس" التي تعني العنزة، و"أوديا" التي تعني "الأغنية" وبتركيبها ينتج المعنى التالي: الأغنية العنزية، حيث إن حيوان العنزة أو التيس كان رمزاً للتضحية عند اليونانيين القدماء قبل تأسيس آلهة الأولمب. والعلاقة بين العنزة والتراجيديا كفن أدبي ومسرحي عند اليونانيين القدماء، كانت تتمثل بمنافسات مسرحية احتفالية، وكانت المسرحية الفائزة تكافأ بعنزة. كما أن أفراد الجوقة كانوا يلبسون ثياباً من جلد الماعز، ما يدل على أن "التراجيديا" هي وليدة المجتمع الإغريقي القديم، وخصوصاً أن المجتمع الإغريقي كان متأثراً كثيراً بالأساطير وقام بربطها بالحياة العامة ما شكل لديهم الهيكل الذهني للإنسان اليوناني بمراحل تاريخه الحضاري. فعندما كان نيتشه يتحدث عن التراجيديا اليونانية، فإنه لم يكن يتحدث عنها بلغة أرسطية واصفة، بل كان يتحدث عنها بلغة فنان عاشق حتى الموت.

إن الأسطورة هي مادة التراجيديا، حيث استطاع الإغريق من خلالها تطوير فنون الشعر والتمثيل والموسيقا. فهذه الفنون المعاصرة وفي صورتها المعروفة، ليست إلا امتداداً لما بدأه الإغريق في هذا الميدان. فالإله بالمعنى الإغريقي يرتل الأناشيد حسب نيتشه. إن المسرحية التراجيدية تكون جامعة لفنون متعددة، والتراجيديا من منظور نيتشه "حياة للذين يحسون وكوميديا بالنسبة إلى الذين يفكرون"، كما أنها في تصور نيتشه لا تحمل أي جانب من جوانب المعقولية. وهذا هو مجمل دعوة فلسفته، فكل ما دعا إليه لم ينتصر في أي لحظة للعقل، وإنما انتصر للحياة والإحساس القوي الجارف. إن التراجيديا جاءت نتيجة اكتشاف الإنسان الإغريقي شيئاً مهماً متعلقاً بحقيقة الحياة، وهي أن الوجود شيء رهيب وعبثي بمعنى أن التراجيدي مرتبط بالإحساس المرعب، لكن هذا الرعب لا يعني التخلي عن الحياة، والانصراف عنها بقدر ما يعني تحمل المعاناة باعتبارها لذة.

كما حاول نيتشه من خلال كتابه "مولد التراجيديا" أن يسترجع أصالة الحقيقة الجمالية المتخفية والمطمورة التي يتضمنها الجسد من خلال تحليل ملامحه التي يظهرها في الواقع، كما أن السبب الذي دفع به إلى دراسة الفن وربطه بثقافة الجسد، يعود إلى اعتباره وسيلة قادرة على الوصول إلى معنى الحقيقة الجمالية الخالصة، ما شكل انعطافاً فعالاً حققه في مساره اللانسقي المنتفض على التيارات والأنساق الفلسفية والجمالية التي ألبسته غطاء التحفظ وجعلت موضوعه الأول هو الغاية الأخلاقية.

كما أكد نيتشه على ضرورة توثيق الرابطة التي تجمع الجسد بالثقافة. إن ثقافة الجسد تقوم بكشف الحقيقة وإماطة اللثام عن أصالة التاريخ القيمي الذي يرمز إلى الديناميكية والمادية، فالثقافة وسيلة تترجم مكنونات الجسد الطبيعية، وبالتالي فإن مزاوجة تاريخ الثقافة مع تاريخ الجسد يؤدي إلى سبر أغوار متعة العيش والرغبة القوية والعميقة في الحياة.

يقول نيتشه في الفقرة 19: "ليست الصيرورة ظاهرة أخلاقية، إنما هي ظاهرة استطيقية" ذاك هو معنى استيلاء نيتشه على لقب "أول فيلسوف تراجيدي". إنه الفيلسوف التراجيدي بامتياز، وذلك في معنيين اثنين: الأول لأنه المضاد والنقيض الأقصى للفيلسوف المتشائم، والثاني لأن لا أحد قبله استطاع أن يصير الطابع الديونيزي إلى انفعال فلسفي.

إن ما يريده الفيلسوف نيتشه من إعادة تأهيل التراجيديا اليونانية من جديد، لا يحتمل أي حنين إلى الماضي المفقود، وإنما قصد الارتقاء بالتراجيدي مثلما عاشه اليونانيون القدامى إلى مقام الانفعال الفلسفي نفسه. إن التراجيديا عند نيتشه، بؤرة الحياة الأبدية وانفتاح لانهائي نحو الآفاق المجهولة، فهي مقاومة للموت، وممارسة للذة في الألم. التراجيديا معانقة للمتعالي ، فعندما نقرأ نيتشه في كتابه "مولد التراجيديا" نكون أمام ازدواجية في اللغة مقرونة بازدواجية في الرؤية نفسها، بمعنى أن نيتشه عندما يتحدث عن التراجيديا اليونانية وعن العصر الهلييني، نلمس في لغته همساً شاعرياً ونبرة شفافة.

ارتبط مفهوم التراجيديا لدى نيتشه ارتبط بجانبين "التراجيديا والروح العلمية" و"التراجيديا والروح الديونيزوسية"؛ فبرأيه إذا كانت الروح العلمية تقوم على تمجيد العقل والجدل والمنطق وعلى التفاؤل بنتائج العلم والوصول إلى الحقيقة أي بلوغ الفضيلة والسعادة، فإنها قد حكمت بالإعدام التام على التراجيديا اليونانية خاصة والحياة عموماً. إن الإنسان السقراطي المتصف بالروح العلمية، متفائل بالعلم والعقل والجدل والوعي، لأنه مقتنع تماماً بإمكانية النفوذ إلى أصل الكائن ليس فقط إلى معرفته، ولكن لتصحيحه أيضاً، وفي هذا الكلام ازدراء للفن والشعر، بل ونفي للغريزة المرتبطة بالجسد عند نيتشه، فالغريزة والجسد قوة فاعلة متعالية عن العقل والحكمة وعن الجدل والمنطق، إنها مصدر النشوة والفرح واللذة، أي إنها الحياة في نظر نيتشه، إلا أن سقراط له نظرة مقلوبة على اعتبار أنه "يقابل الفكرة بالحياة ويحاكم الحياة بالفكرة"، ويقول نيتشه "إن سقراط ينتسب حقاً إلى عالم خاطئ مقلوب في الطبائع الإنتاجية، إنه اللاوعي الذي يتصرف بشكل إبداعي وتقديري، في حين أن الوعي نقدي وردعي عنده -أي سقراط- فتصبح الغريزة نقداً والوعي إبداعاً".

وهكذا نرى أن نيتشه يرفع من قيمة الحضارة الإغريقية في مقابل ذمه لحقبة الفكر النظري مع سقراط، أي مرحلة الانحطاط الفلسفي ومعه التراجيدي.

----

الكتاب: مولد التراجيديا

الكاتب: فريدريك نيتشه

ترجمة: محمد الناجي

الناشر: أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2011