يعد ابن رشد من أشهر الفلاسفة والمفكرين المسلمين الذين عالجوا قضية التوفيق بين الشريعة والفلسفة، باعتماده على المنطق بوصفه أداة أساسية في التأويل، كما تعد قضية التأويل واحدة من أهم القضايا التي ألقت بظلالها على البيئة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والتي أولاها الفيلسوف ابن رشد جانباً مهماً في أبحاثه ودراساته.

يعتبر "التأويل" من أهم الأفكار الفلسفية التي توصل إليها ابن رشد، بل هو يعتبر توجهاً رشدياً خالصاً يجعل من فلسفته فلسفة مفتوحة، ما يسمح باتساع الرؤية وانفراجها كلما ازدادت معطيات الواقع الفكري والثقافي ثراءً وازدهاراً، فمن خلال التأويل يؤسس ابن رشد لمشروعية الاختلاف القائم على مبررات عقلية أو علمية، ويقضي على الرؤية ذات الاتجاه الواحد، حيث إن الخطاب الدوغماتي يفرض على معتنقيه الاستسلام الفكري المطلق للقراءة الحرفية للنص الأصلي. إذا كانت العلوم الفلسفية تتطلب اطلاعاً واسعاً ومجهوداً ضخماً في التفكير، فإن علوم الشريعة تتطلب في نظر ابن رشد درساً واجتهاداً وإدراكاً قد يكون أصعب من الذي تتطلبه الحكمة.

يهدف التأويل في معناه إلى فهم حقيقة النص وخصوصاً أن معانيه في الفلسفة تعددت وأصبحت تعني بما وراء منتج النص واختلطت مع التفسير في الفلسفة العربية. وقد احتلت إشكالية التأويل بين الفلاسفة مكانة هامة ومن بينهم ابن رشد الذي اعتبرها من أهم المناهج الفلسفية، ويهدف التأويل في معناه التقليدي إلى فهم حقيقة النص، لكن معانيه في الفلسفة تعددت كثيراً، وأصبح يُعنى بما وراء المنتج النّصي من خلال استقراء النص واستنطاقه. كما تعددت مباحث التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية لكنه اختلط مع التفسير، وخصوصاً في بحوث القرآن ومقاصد الشرع، حيث وظفه الفلاسفة والفقهاء والمتكلمون بوصفه أداة معرفية من أجل بلوغ الحقيقة.

كما يرى ابن رشد أن التأويل لا بد أن يعتمد على برهان عقلي ليكشف على معنى باطني اعتماداً على العقل والمنطق، فمن خلال كتابه "نظرية التأويل ومفهومها" يرى أن الهدف من التأويل هو بلوغ اليقين وعدم الشك، أي أن المعنى الباطني مرتبط ارتباطاً وطيداً بالكتاب والسنة.

التأويل من وجهة نظر ابن رشد هو نوع من المزاوجة بين الدين والفلسفة، أو هو فهم للدين من خلال الفلسفة، لأنه لا يمكن التأويل في نظره أي تفسير النص الديني، إلا باستخدام التأويل المعتمد على البرهان والاستنباط العقلي المنضبط بضوابط اللغة والالتزام بدلالات هذه اللغة، ولذلك نعتبر أن الدين والفلسفة عند ابن رشد قد اتحدا في هذا المفهوم اتحاداً جوهرياً ومستقبلياً من حيث يفتح التأويل للعالم وللفيلسوف باباً واسعاً للاجتهاد الديني غير المقيد بمذهب والذي يجعل للحقيقة العقلية والرؤية الفلسفية ضرب من الاجتهاد.، ولا ننسى أنه لكي يتمكن الفيلسوف، في نظر ابن رشد، من التأويل لا بد أن يكون مستكملاً لكل أدوات المجتهد، فلا يقوم بالتأويل إلا العلماء والحكماء الذين وصلوا إلى مرحلة الاجتهاد، فالتمكن من النصوص حفظاً واطلاعاً ونقداً وتحليلاً شرط أساسي لكل مبتدئ في طريق الاجتهاد

كما خصص ابن رشد "فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة" لفحص قضية التأويل وأصح تأويل في نظره هو ما ينتج عن القياس المنطقي، كما يبين أن التأمل في الوجود أساسه عقلي من خلال قوله "فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي". لذلك يجعل ابن رشد المنهج العقلي الذي يعتمد البرهان في الأساس هو المنهج الوحيد الذي بإمكانه أن يستخدم في التأويل.

اعتمد ابن رشد في كتابه على بعض شروحه للفلسفة الأرسطية من خلال التلخيص والإيجاز، وتمكن وفق هذا المنهج، من البرهنة على المسائل التي بقيت عالقة من دون حل، وإبراز بعض الحقائق التي لم يبرزها أرسطو لرغبته في الإيجاز والاختصار. كما اعتمد على المنطق بوصفه أداة أساسية في التأويل، حيث تمكن من بلوغ الحقيقة اليقينية التي لا شك فيها. ويميز ابن رشد بين التأويل الجدلي والتأويل البرهاني، وذلك على أساس طبيعة المقدمات التي يتكون منها كل منهما، فالقياس الجدلي يقوم على مقدمات مشهورة أو مظنونة سواء وجدت فيها شروط المقدمات اليقينية أو لم توجد، وصناعة الجدل تبطل الآراء بأقاويل مشهورة لا يؤمن أن ينطوي فيها.

كما قسم ابن رشد الناس إلى ثلاثة أصناف حسب درجة الإدراك، الصنف الأول يصفهم بأهل الخطاب، والصنف الثاني أهل الجدل، أما الصنف الثالث فهم أهل البرهان.

----

الكتاب: إشكالية التأويل عند ابن رشد

الكاتب: نظير محمد النظير عياد

الناشر: دار الآفاق العربية، 2016