يرى الباحث والمفكر السوري تيسير شيخ الأرض في كتابه "الوجود والصيرورة والفعل" أن الإنسان حيثما يقيم عالمه الإنساني فوق العالم الطبيعي، يدخل الحرية في نسيج الحتميات الطبيعية، فيضيف إلى الوجود صوراً جديدة ما كانت له قبل مجيئه، وهذا بالضبط ما نسميه "الحضارة" بأوسع معانيها.

لولا العالم الطبيعي لما كان الإنسان، ولما كانت الحرية، ولولا الغنى غير المتناهي للعالم الطبيعي لما تمكنت الحرية من أن تضيف الإبداع إلى الإبداع على نحو ليس له نهاية، فبالحرية يتحول ما هو طبيعي إلى ما هو إنساني، وهذا الأثر الإنساني سيبقى ليدل على الإنسان الذي أبدعه. إذا كان للفعل الإنساني كل هذه الأهمية، فهي ليست متعلقة به بما هو مجرد فعل إنساني، إنما بما هو إنساني يسعى إلى التوافق مع عالمه، وهذا التوافق هو الباعث الأخير لكل فعل إنساني، وإذا كان هذا يقول بالغائية في العالم، فهي غائية بالإنسان ومن خلاله ومن خلال أوضاعه في العالم، لكن الغايات الإنسانية لا تكون غايات بحق إلا بالقيم التي تحملها فيها بالقوة، والتي تحققها بالفعل إذ تحقق ذاتها.

يرى تيسير شيخ الأرض أن إبداع الأشياء الجديدة والمؤسسات والأنظمة الجديدة، وإقامة عالم إنساني جديد بعلم جديد، وسلوك توجهه أخلاق جديدة، وفنون تخلقه خلقاً جديداً، يعني إبداع إنسان جديد، لكن إبداع الجديد لا يعني إبداع الجيد دائماً، ونحن – برأي شيخ الأرض- إن كنّا في كل لحظة من حياتنا نبدع أنفسنا بأفعالنا بصور جديدة، فإن إبداعاتنا تتراوح بين العبقرية والابتذال. وما دامت هناك صيرورة، فالفرصة متاحة أمامنا للفعل. وكل فعل نقوم به يغير من شخصنا في اتجاه التجديد أو الابتذال. غير أن حركة الصيرورة العامة تتضمن الحرية فيها بالقوة، وهذا ما يبرهن عليه وجود الإنسان الذي يتمتع وحده بالحرية دون سائر الكائنات. وهذه الحرية لا ترتقي إلى مستوى الإبداع إلا بهبوطها إلى مد الصيرورة، وبتشبثها بموجوداتها وحوادثها، جاعلة من حتمياتها مادة لعملها المبدع، وهكذا لا يكون إبداع من دون حرية وحتمية حرية يتمتع بها الوجدان، وحتمية تقدمها الصيرورة.

أما الإنسان والذي هو استثناء ويمكنه أن يقوم بأفعاله الحرة، فهو – بحسب شيخ الأرض- نتيجة من نتائج الصيرورة، فهي التي قذفته إلى هذا العالم حراً عاقلاً من جهة، ووهبته القدرة على الخلق والإبداع من جهة أخرى.

مسألة الوجود

يقول أفلاطون: "إن الوجود غير موجود، وإن اللاوجود موجود"، ليستنتج من ذلك أن اللاوجود ليس نقيض الوجود بل هو وجود مغاير، لكن شيخ الأرض يرى فيما قاله أفلاطون خطأً فادحاً، غير أن الأفدح منه هو تبني أجيال من الفلاسفة له.

والوجود بالنسبة إلى شيخ الأرض ليس من اختراع الفلاسفة، بل هو السند الأول لكل ما أتوا به، وهو ليس تجريداً من تجريداتهم أو تجريدات سواهم، بل المنطلق الذي يبدأ منه من يجرد وما يجرد، ومن هنا كانت مسألة الوجود هي "أم المسائل الفلسفية".

الوجود وتجريده

ولتجريد الموجودات وصفاتها قصة شائقة في تاريخ الفلسفة، تبدأ بالإشكال الذي أثاره الظهرانيون بعامة، وهيوم بظهرانيته المتطرفة، وكانط بظهرانيته المعتدلة بخاصة، ويدور الإشكال حول ما تدركه الذات العارفة من الموجود، أهو وجوده أم ظواهره؟

وقد رأى هيوم أننا ندرك ظواهره فقط، في حين ذهب كانط إلى أننا ندرك ظواهره بالحس، ونستنتج شيئاً في ذاته يقبع وراء الظواهر. وهنا يتساءل شيخ الأرض هل عرض المسألة على هذا النحو صحيح؟ حيث يرى أن الذات لا تلاقي الموجود في فراغ، بل في ملاء الوجود المشخص، وإن الموجودات المفارقة لنا تجريداً تشاركنا في هذا الوجود، ونحن وهي نتلاقى في غمرة صيرورته ونتفاعل، وهذا ما يجعل (المفازة) التي يبدو أنها تفصل بيننا هي في حقيقة الأمر تقيم تواصلاً حياً، أي مساكنة مشتركة في الوجود المشخص.

وهذه هي الحلقة المفقودة في نظر الظهرانيين، والتي تعني استبدال التشخيص بالتجريد، وهذا الاستبدال يضع في أيدينا مفتاح مسألة حقيقة ما ندرك، أهو الوجود أم الظواهر؟ ويتوصل شيخ الأرض إلى حقيقة مفادها أن أول ما تقدمه إلينا حواسنا من العالم الخارجي هو بعض أشيائه، في ظواهر تحمل معها إشارة إلى قوام وجودي تصدر عنه هذه الظواهر، فالظواهر والقوام الوجودي يدركان معاً منذ الوهلة الأولى، أما الماهية فيكون إدراكها فيما بعد.

صيرورة الوجود وإبداع الإنسان

عندما كان الوجود بالنسبة إلى شيخ الأرض قائماً أبداً، فالصيرورة مستمرة أبداً، والفعل ممكن أبداً، والإبداع ممكن بإمكانه أبداً، وبهذا يظل الفعل في أحواله كلها مسبوقاً بالصيرورة ومشروطاً بها، سواء كان مبدعاً أم غير مبدع، فالصيرورة هي التي تمكنه من اختيار إحدى حتمياتها التي تعرضها عليه، وهي في ذاتها قديمة، ويبقى عنصر الجدة والإبداع متمثلاً في طريقة استخدامه لها.

إن هذا يعني أن حرية الإنسان ليست سوى شق ضئيل في حتمية الوجود الكبرى، ولا بد لها بعد خروجها من هذه الحتمية أن تنتهي إلى عودة الوقوع بها والخضوع لها، فكأن صيرورة الوجود قد أبدعت الإنسان كي يستمر في إبداع العالم، متكئاً على إبداعاتها ذاتها، ولكن في سبيل الانكفاء إلى حتميتها الكبرى بحتميات صغيرة جداً، ما كان لها أن تبدعها من دونه.

والحقيقة فإن العقل لم يظهر إلا متأخراً بظهور الإنسان عموماً وظهور الإنسان المتحضر خصوصاً، وهذا ما يجعل كل ما يحدث من دونه، وبمعزل عن إرادته خاضعاً للصيرورة وحتمياتها العمياء.

----

الكتاب: الوجود والصيرورة والفعل

الكاتب: تيسير شيخ الأرض

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، 1994