لابن بطوطة موقع خاص في قلوب أساتذة التاريخ العالمي، كما يقول مؤلفا كتاب "الرحلات في التاريخ العالمي – العصور قبل الحديثة" ستيفن غوش وبيتر ستيرنز، ويتحدثان بتقدير عن رحلته حيث "سار من شمالي أفريقيا ما يزيد على 75000 ميل خلال حياته، على القدمين وعلى الحمار وفي السفينة، زائراً ثلاث قارات وجزراً كثيرة، ومخبراً عنها، جامعاً بين الوصف البارع والأحكام القيمية القوية".

تتناول صفحات الكتاب أعمال بعض أعظم الرحالة في التاريخ العالمي، من الذين ساروا آلاف الأميال إلى أمكنة كانوا لا يعرفون عنها إلا القليل، حول أناس قبل الأزمنة الحديثة، قطعوا مسافات عظيمة، لكن لم "يخلفوا سجلاً شخصياً، وكانوا عوناً على إحداث تغيير بمسيرهم الطويل".

كان لهذه الرحلات أن تكشف أشياء كثيرة عن المجتمعات التي تقع فيها سواء من منظومات النقل أو التنظيم السياسي، وأنماط التجارة والاعتقادات الدينية. وغالباً ما تكون دوافع الرحالة مرآة للعصور التي عاشوا فيها، وتقدم "روايات للمعلومات الوحيدة التي نملكها في ما يتعلق بمجتمعات بعينها في الماضي، ومثالها الامتدادات الشاسعة لأقوام آسيا الوسطى".

ويلفت الباحثان إلى مسألة على غاية من الأهمية، إذ إن السفر "قوة من القوى التي شكلت التاريخ العالمي بحفزها أنواعاً جديدة من الاحتكاكات بين شتى شعوب العالم".

لكن مع ذلك ثمة إشكالية كبرى في مقولة "سترابو" وهو رحالة يوناني من القرن الأول الميلادي، يشير فيها إلى أن "كل محدث بقصة رحلاته متبجح" ما يجعل مصداقية أولئك الرحالة موضع تساؤل وشك عند العلماء الحديثين، وذلك أن التباهي بمغامرات المرء الشخصية على الطريق أو في البحر، كان سمة لأدب الرحلات في العصور قبل الحديثة.

يشي التأريخ للرحلات في العصر الكلاسيكي برسم خريطة لعلاقات وتفاعلات مع الشعوب والأمم الأخرى. فإذا اشتهر اليونان والرومان كرحالة، فقد سبقهم الفينيقيون والفرس في هذا الميدان، وكان الفينيقيون أكثر الرحالة في التاريخ العالمي جسارة. وقد ظهرت روايات رحلاتهم من خلال شبكة من العلاقات المترامية على مستوى الجاليات التجارية عند الشعوب التي وصلت رحلاتهم إلى بلادهم. وقد ضربوا "مثالاَ حياَ على الرحلات المتكررة والواسعة، ووصلوا إلى مجموعة من الجزر في الأطلسي".

وابتداء من القرن السابع الميلادي ظهرت الإمبراطورية الفارسية بقيادة قورش الأكبر، وانطلق رحالتهم إلى أنحاء متعددة من العالم القديم، وإن لم تؤرخ بدقة لكن الهدايا التي كان ملوك الفرس يتلقونها كانت تدل على المدى الذي وصلت إليه رحلاتهم. وقد وصف أحد اليونانيين ذلك "بكم -الفرس- كل طريق سهلة، وكل نهر ممكن العبور، وما من قلة في المؤن".

ومع اليونانيين دخل تأريخ الرحالة ميدان الأدب عبر أعمال قصصية خالدة كان أبرزها آنذاك "الأوديسة" التي كتبها هوميروس بحدود 700 قبل الميلاد، وتناولت رحلة أوديسيوس التي تدل بعض الإشارات التاريخية إلى أنها تعود لعام 1300 قبل الميلاد بعيد انتهاء حرب طروادة وهو عائد إلى بلاده. ومن أمثلة القص أيضاً حكاية "جاسون والأغونات" وهي "طاقم النوتيين الذين تحدوا الكثير من الأخطار ليبحروا في مياه لم تسلك من قبل سعياً وراء الجزة الذهبية السحرية".

لكن بالتأكيد يعد كتاب هيرودوت "التواريخ – أو الحروب الفارسية" أول دليل على أهمية الرحلات عند اليونانيين حيث يتضمن "أوصافاً مباشرة للأحوال وطرق الحياة في أربعة أقاليم أو بلدان أساسية: مصر، والأراضي المعشوشبة شمالي البحر الأسود –أوكرانيا اليوم – وما بين النهرين –العراق- وشمالي أفريقيا –ليبيا".

ومع ذلك تم التشكيك بشيء من مصداقية هيرودوت عندما تحدث نقلاً عن آخرين، ذلك أنه لم يزر تلك المناطق التي أشار إليها أحياناً. وأحد الأمثلة على فقدان المصداقية يتضح في الخلط بين الحقيقة والخيال المتضمن في وصفه للحياة في الهند، وهو مكان لم يسافر إليه، ذلك أن معرفة اليونانيين بالهند كانت معرفة مبهمة.

ومع توسع الإمبراطورية الرومانية، وانتشار أكبر للطرق والخطوط البحرية، ولأسباب سياسية واقتصادية، تزايدت الرحلات بشكل كبير أمام التجار والراغبين بالسياحة الدينية التي بدأت تأخذ مكانها، بين الرومانيين، خاصة مع التحولات المثيرة خلال حكم قسطنطين "305-337" وهو أول إمبراطور مسيحي تبنى مشروعاً لبناء الكنائس في أرجاء عالمه الجديد إثر اعتماد الديانة المسيحية في الإمبراطورية الرومانية عام 325 ميلادية، بعد عقد أول مجمع مسكوني في نيقيا.

وتقع التجارة في موضع القلب بالنسبة إلى الإمبراطورية الصينية التي شجعت على ذلك، ليتم إنشاء طريق الحرير ويزداد إقبال أبناء المنطقة بشكل كبير على السفر إلى الصين. ومن ثم ظهرت السياحة الدينية من قبل الرهبان البوذيين إلى الهند بشكل واسع، حيث نعثر على روايات متنوعة لهذه الرحلات.

أعظم رحالة العالم

تحت هذا العنوان استفاض المؤلفان في الحديث عن الرحالة ابن بطوطة، الذي بدأ رحلته بمكة ثم زار شمالي أفريقيا ومصر وفلسطين وسورية، وذهب إلى العراق وفارس مستفيداً من شبكة السفر المعروفة داخل الشرق الأوسط. وبعد استراحة قصيرة قام برحلات إلى الهند والصين، وأخيراً قام برحلة إلى أفريقيا الغربية "مالي". وانتهى به المطاف في المغرب ليقضي سنواته الأخيرة قاضياً، لكن السلطان "أبو عنان" كلفه بتدوين رحلاته. ولأنه لم يكن قريباً من التأليف، فقد كلف السلطان الكاتب ابن جزي للقيام بمهمة التأليف، حيث تعاون الاثنان على وضع كتابه الشهير، وكان بمثابة حكايات متناسقة ذات صبغة شخصية أدخل فيها قدراً وافياً من المعلومات عن البلاد التي زارها. ليعبر بعد ذلك إلى رحلات ماركو بولو والرحلات المسيحية، ثم انفجار الرحلات في القرن الخامس عشر.

وتأتي أهمية هذه الرحلات في التاريخ العالمي من دورها في إقامة الصلات بين الأقاليم بأساليب كان لها مضامين ثقافية وتجارية وتقانية، فقد كانت "عوناً على أن تنسخ المجتمعات بعضها عن بعض".

----

الكتاب: الرحلات في التاريخ العالمي

الكاتب: ستيفن غوش وبيتر ستيرز

ترجمة: وفيق فائق كريشات

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2017