تصدى الدكتور فكتور سحاب لدراسة ما طوره عمالقة التلحين والغناء في الموسيقا العربية خلال القرن الماضي، واختار سبع شخصيات واضعاً لهم معياراً لدراسة ما قدموه في تاريخ الموسيقا العربية المعاصرة. ليس بالضرورة ضمن الدراسة المقدمة أن يكون هناك اتفاق على الاختيار وبنفس المعيار تجاهل عناصر معاصرة، فلماذا لم يكونوا عشرة مثلاً؟

كتاب "السبعة الكبار في الموسيقا العربية المعاصرة"، للباحث الدكتور فكتور سحاب، وهو الذي درس سبعة من عباقرة الموسيقا والغناء، قلما يولد لأمـم الأرض نظير لهم في مثل هذا الزمن القصير: سيد درويش، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، ورياض السنباطي، وأسمهان.

يشير الباحث فكتور سحاب أنه في ربع قرن تقريباً امتد من سنة 1904 إلى سنة 1934، ظهرت في مصر مبتكرات تكنولوجية غربية أحدثت أثراً خطيراً في الموسيقا العربية، فدخل الفونوغراف ليحل محل الحفلات والمسارح وسيلة لنشر النتاج الموسيقي والغنائي، وتطورت صنعة المسرح الغنائي تمثلاً بالأوبرا الإيطالية التي أخذ المصريون يشاهدونها في مدنهم منذ عهد الخديوي إسماعيل، ثم ظهر أول الأفلام المصرية سنة 1927، وأول الأفلام الغنائية سنة 1932، وسرعان ما ظهر الميكروفون، وتأسست الإذاعة المصرية سنة 1934، فأحدثت هذه المبتكرات تبدلات تعصى على محاولة الحصر، فغيرت كثيراً من ملامح الموسيقا والغناء العربيين في مصر، ثم في الوطن العربي، فاقتضى الفونوغراف أن تكون الأغنية سريعة قصيرة تستوعبها أسطوانة، فاختفت الوصلة الغنائية، وظهرت مكوناتها في أنواع غنائية مستقلة: الموال، والموشح، والدور، واقتضى المسرح الغنائي ابتكار المحاورات الغنائية، وظهور التعبير الوجداني والتمثيلي في الغناء.

وعزز ظهور السينما الحاجة إلى ظهور التعبير والتمثيل والمحاورة في الموسيقا، وفرض الإيقاع السينمائي والمضمون الاجتماعي نفسيهما على ملحن الأغنية السينمائية، ثم استطاعت الإذاعة أن توسع انتشار الأغنية، وأحدثت أثراً معاكساً لأثر ظهور الأسطوانية، إذ يسرت الوصلات الإذاعية للأغنية الطويلة أن تعاود الظهور والازدهار. وفي أثناء هذه التطورات فيما كان السبعة الكبار يمسكون بأزمة الموسيقا والغناء العربيين، فيطورون الأنواع والأشكال، ويشقون سبلاً جديدة لزملائهم الموسيقيين والمعنيين العرب.

يطرح الدكتور فكتور سحاب مبررات الاختيار بالإجابة على مجموعة من التساؤلات منها: لماذا اقتصرت دراسته على سبعة من كبار موسيقي العرب ومغنيهم، ولم تتناول ثمانية منهم أو عشرة، أو لم تقتصر على خمسة مثلاً؟

ألا يستحق سلامة حجازي، أو كامل الخلعي، أو درويش الحريري، أو داود حسني، أو محمـود الشريف، أو فـريـد الأطرش، أو محمد فوري، أو غير هؤلاء، أن يدرج ضمن هذه الدراسة؟ هل كان ضرورياً أن تحصر الدراسة بعدد من الأعلام؟ هل ينبغي أن يتجنب الاعتباط واعتبارات المزاج الشخصي والاستنساب؟

إن السبعة رقم من تلك الأرقام التي يصفونها بالسحرية، لكن هذا الأمر هو الأبعد في التأثير على الاختيار.

يجيب الكاتب عن تلك التساؤلات أنه لم يكن التوقف عند السبعة الأوائل من الموسيقيين والمغنين، مجرد اكتفاء عند حد لا ملامح واضحة له، إن السبعة الكبار يشتركون في أمر، لا يشاركهم فيه الآخرون، والموسيقا العربية قبلهم كانت شيئاً، وأصبحت معهم وبعدهم شيئاً آخر. وتبين الدراسة ملامح هذا التبدل بوضوح في الدراسة تباعاً، وإذا كان عدد من الأعلام قد استبعد، فلأنه عمل في الموسيقا العربية المنتمية من حيث ملامحها ومقوماتها، إلى عصر سابق، عصر يصطلح على تسميته: مدرسة القرن التاسع عشر، التي يمثلها على الخصوص عبده الحامولي ومحمد عثمان والآخرون، لهذا استبعد سلامة حجازي وكامل الخلعي وداود حسني، مع أنهم من الكبار، لأنهم لا ينتمون إلى الموسيقا العربية المعاصرة، واستبعد محمد فوزي وفريد الأطرش ومحمود الشريف وغيرهم، مع أنهم من الأعلام، وينتمون إلى الموسيقا العربية المعاصرة، لأنهم لم يشتركوا فيما اشترك فيه السبعة الكبار.

وهنا ربما نختلف في الرأي والتقييم ولكن المعيار الذي وضعه علينا احترامه فيرى: إن المعيار الأول الذي اعتمد في اختبار السبعة الكبار دون غيرهم من المعاصرين، هو أن هؤلاء السبعة، هم الذين شقوا الروافد الأساسية التي تشكل منها نهر الموسيقا العربية المعاصرة. فالشيخ سيد درويش هو الذي وضع أسس التعبير المسرحي والتمثيلي في الموسيقا العربية، ومحمد القصبجي هو الذي وضع ملامح المونولوج الوجداني العربي وثبت أصوله الموسيقية، والشيخ زكريا أحمد هو الذي طـور الدور والطقطوقة، ومحمد عبد الوهاب هو الذي طور القصيدة وأنشأ الموال في أغنية مستقلة، ووضع ملامح الأغنية السينمائية، والسنباطي هو الذي ثبت شكل الأغنيـة المسرحية وأضفى على الموسيقا العربية نفحة صوفية، وأم كلثوم هي التي عاندت أحكام الأسطوانة، ومددت عمر الأغنية المسرحية الطويلة التي بدا أن الحكم بزوالها قد صدر، وأسمهان هي التي زاوجت أساليب الغناء العربية ببعض أساليب الغرب، وأنشأت مفهوماً جديداً للغناء النسائي العربي امتد تأثيره حتى صار راسخ الأركان في التراث العربي المعاصر.

الأمر الذي يشترك فيه السبعة الكبار إذاً، هو أنهم شقوا المسالك ورسموا السبل ووضعوا الأسس، فتبعهم الآخرون، وبنوا فوق أسسهم ونسجوا على منوالهم. إذا درست القصيدة العربية فإن أحداً يكاد لا يعثر على جديد بعد تطوير عبد الوهاب لها. وإذا درست الأغنية السينمائية العربية، فإن ملامحها هي التي أسسها عبد الوهاب في أفلامه الأولى. أما الطقطوقة التي طورها زكريا أحمد، ثم زاد في تطويرها السنباطي والقصبجي من بعده، فهي آخر ما ظهر من تطوير في هذا النوع من الغناء، وكذا قل في المحاورة والمونولوج والموال، وما إليها.

كان يمكن في الافتراض النظري، أن تعمل الدراسة موسيقياً عربياً ثامناً أعظم من السبعة، أو أعظم من بعضهم، لو كان هذا الموسيقي الثامن قد وضع أغنيات متفوقة، علتها الوحيدة أن أشكالها هي الأشكال التي ابتكرها واحد من السبعة الكبار. وكان يمكن في الافتراض النظري كذلك أن تهمل الدراسة مغنية أعظم من أسمهان، لو كانت هذه المغنية الوهمية تغني على النسق الذي ابتدعته أسمهان وشقت طريقه من قبلها. إلا أن هذا يظل، في تقديري احتمالاً نظرياً، لأن الموسيقيين والمغنين السبعة الكبار الذين وضعوا وغنوا أرقى وأهم ما في الموسيقا العربية المعاصرة، هم الذين بذلوا نسيج الأنواع والأشكال الموسيقية، وطوروا أساليب الغناء العربي، ولذا فإن الحد الذي يضعهم في فئة على حدة، فوق الآخرين، هو حد مزدوج.

هنا نقف على اتفاق واختلاف في الرأي مع الباحث الدكتور فكتور سحاب، فهو يؤكد أن محمد عبد الوهاب هو الذي طور القصيدة، ورأي النقاد أن من طور القصيدة وسيد تلحينها بعد أبو العلا محمد الذي نسف قالب الدولاب واستبدله بمقدمة موسيقية تدل على المعنى الدلالي للقصيدة بحيث ثبت ذلك السنباطي بلا منازع وأضفى على الموسيقا العربية نفحة صوفية كما في الأطلال ورباعيات الخيام وأقبل الليل وغيرها. ومن وضع الموال في منتصف الأغنية المستقلة هو فريد الأطرش إضافة لما أدخله من إيقاعات غربية مثل تانغو ورمبا وفالس وغيرها. ومن وضع ملامح الأغنية السينمائية عبد الوهاب إضافة إلى فريد الأطرش. كما أتفق معه أن السنباطي ثبت شكل الأغنيـة المسرحية، ولكن لم يشر إلى من رسم هوية الأغنية الشعبية والأوبريت مثلاً وهما سيد درويش وفريد الأطرش، وفي الأوبريت كامل الخلعي وفريد الأطرش.

اعتمد الباحث سحاب على العنصر الموحد لدراسة العصر، فبدأ بأولهم مولداً الشيخ سيد درويش، ثم ثانيهم محمد القصبجي، وهكذا واعتمدت في هذا الترتيب سنوات المولد المحققة، وحين اضطرب تاريخ المولد، كما في تاريخ مولد أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، اعتمدت الدراسة تاريخاً مختاراً مرجحاً يستند إلى الشواهد المتوافرة.

----

الكتاب: السبعة الكبار في الموسيقا العربية المعاصرة

الكاتب: الدكتور فكتور سحاب

الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، 1987