يبيّن د. أحمد داوود في كتابه "تاريخ سوريا القديم" أن الموقع الاستراتيجي الذي شغلته الأرض العربية منذ القدم، كان له تأثير كبير على تاريخها على مر العصور، وهذا الموقع كان أحد العوامل التي أكسبتها أهمية خاصة في تاريخ الحضارة العالمية، كما أنه جعل قسماً منها هو سورية معرضاً للأخطار والغزوات من جميع الجهات.

إن اتصال سورية بصورة دائمة وسهلة بالعالم الخارجي بواسطة الطريق الدولي العظيم، جعلها أكثر مناطق العالم تعرضاً للأخطار طيلة تاريخها الطويل. إن البقاع التي شغلها العرب السوريون الزراعيون منذ أن عُرف أول استيطان زراعي في العالم، هي تلك الأرض الممتدة من الخليج العربي بشاطئيه الشرقي والغربي، إلى حوضي دجلة والفرات الأدنى والأعلى، إلى الأرض الممتدة على طول الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، إلى ضفاف الأردن، ثم إلى دلتا نهر النيل.

وقد أكدت جميع المكتشفات الأثرية أن عرب هذه المنطقة الذين أطلق عليهم اسم "السوريين" نسبةً إلى "سر" كما دعوا بالسريان، إنما كانوا أول من دجن النبات، وبنى الأكواخ، وأقام المستوطنات الزراعية، وعرف المعدن والتعدين، وبنى السفن، واخترع الكتابة، وقد عمت تسميتهم حتى شملت أشقاءهم الأموريين أبناء "مر" في الشمال والغرب، وصار اسم "سري" (سوريا)، أو "سرت" (سورية)، شاملاً للمنطقة كلها.

ولقد صعب على كثير من المؤرخين أ يقروا بأن العرب السوريين كانوا المؤسسين لأول حضارة زراعية في العالم، بل إن معظمهم كتب التاريخ كما تريد الجهات الاستعمارية الطامعة بهذا الوطن ومقدراته، فعمدوا إلى خلق نظريات وفرضيات، وابتدعوا شعوباً، وطمسوا وجود أخرى.

حضارة واحدة

والمنطقة العربية عامرة بالمدن الحضارية منذ الألف السابع ق.م على الأقل، وتنتشر على طول الساحة العربية السورية الممتدة من ضفاف الخليج إلى شاطئ المتوسط، حيث تمتد حضارة واحدة من عمر واحد تقريباً لشعب واحد، لم تعرف هذه الأرض قبله أو بعده أي شعب منذ آلاف السنين حتى اليوم، وقد أكد الباحثون منهم موسكاتي وكيلر وغيرهما أن ما يُعرف بمنطقة الشرق الأدنى كلها عرفت وحدة قومية واحدة ترجع إلى أصل واحد (الأصل السامي العربي)، ويبيّن موسكاتي أن المناطق الثلاث (الجزيرة العربية وسورية من ضمنها فلسطين وبلاد ما بين النهرين)، كلها تكون وحدة جغرافية متماسكة الأجزاء في تلك الأزمان، ومسرحاً رئيسياً للنشاط البشري.

إن نظرة واحدة شاملة للوطن العربي السوري القديم، تُرينا كيف كانت هذه البقعة الحضارية المترامية تسير بصورة متواكبة تقريباً، حتى وإن لا يمكن لأي اختراع قد يمثل قفزة حضارية لدى شعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات أن يوجد في عقول الناس جميعاً دفعة واحدة.

فالكتابة التصويرية التي وجدت ربما لأول مرة على أيدي العرب السوريين في سومر، فإن شكلاً آخر موازياً لها هذا إن لم يسبقها في الظهور كان عند أشقائهم التجار السوريين في الغرب، والتي تُعتبر من أقدم الرموز التصويرية المعروفة لدينا.

واختراع الكتابة في سومر العربية السورية هو شيء منطقي، كما أنه من المنطق أن نكون قد عثرنا على أول كتابة في العالم في ماري وإيبلا أو حلب أو أوغاريت أو صور أو صيدا أو جبيل أو سيناء أو دلتا النيل، وهنا يكفي أن نشير إلى أنه إذا كانت أول كتابة تصويرية ومقطعية مكتشفة حتى الآن قد وجدت في سومر، فإن أول تطور لها من المقطع إلى الحرف جاء على أيدي أشقاء السومريين في الغرب في أوغاريت وجبيل، كذلك أوجد العرب السوريون في أوغاريت أول أبجدية صوتية في العالم بالخط المسماري، ثم تطورت في القرن الثالث عشر ق.م في جبيل وكتبت بالعلامات التي هي الأبجدية الفينيقية.

البحر المتوسط والتوسع العربي السوري

كان الفينيقيون (السوريون العموريون أو الغربيون عموماً)، يبنون ويؤسسون أينما ذهبوا، وقد أدخلوا النشاط لعالم كان يبدو فيه الجمود، ووسعوا آفاقه المعرفية والتطبيقية، وقد اشتهر عنهم بناء المحطات أو (العساقل) في رحلاتهم البحرية الطويلة على طول الشواطئ، ثم تطورت إلى مراكز تجارية، ثم إلى مراكز سكنية تعج بالحياة، وما لبثت أن تطورت إلى مستعمرات، واتصلت هذه المستعمرات ببعضها وبالمدن الأصلية الأم بطرق الملاحة، وانتشرت من شمالي الدلتا المصرية إلى سواحل فينيقيا وكيليكيا واليونان والشمال الأفريقي، ثم إلى شواطئ البحر المتوسط الشمالية وجميع الجزر المنتشرة في حوضه، فجعله أولئك العرب الأوائل بحراً عربياً سورياً بحق.

ولقد بلغ النشاط التأسيسي في غربي المتوسط ذروته بين منتصف القرنين العاشر والثامن، ويشير نجاحه العظيم إلى وجود طبقة أقدم من المستوطنين العرب السوريين في شمالي أفريقيا، وربما في شبه جزيرة إيبيريا، وقد تكون الهجرة التي حملت الساميين في الألف الرابع ق.م إلى مصر قد استمرت إلى أبعد من ذلك، وهناك ذكريات غامضة لمرويات تجعل الساميين القدماء موجودين في مناطق غربي البحر المتوسط، واحتفظت بها الكتابات الكلاسيكية والعربية، والحقيقة أن هذا يدحض فكرة إمكان قيام شعب أو ظاهرة على فراغ.

إن الدولة العربية السورية التي كان يختفي اسمها تارة تحت مجموعة من الأسماء الشظايا لتفتيت وحدتها والإساءة إلى دورها الرائد في الحضارة البشرية، وخلف جملة من الأسماء الغربية والمبهمة من أجل طمس هويتها العربية تارة أخرى، تعود اليوم حتى من خلال تلك الأسماء الشظايا لتعلن كلمتها من خلال بعث الحقائق. وبصرف النظر عما يستخدمه البعض من أسماء مثل شرقي المتوسط، بابل، آشور، الساميون، الشرق، الشرق القديم، الشرق الأدنى، فإن ما يهمنا هو وجه الحقيقة الذي ينبثق رغم كل شيء من خلف هذه الأسماء.

----

الكتاب: تاريخ سوريا القديم

الكاتب: د. أحمد داوود

الناشر: دار الصفدي