دأب كثير من دارسي الفن، على الاهتمام بتتبع تاريخ الفنان من أجل تفسير أعماله الفنية، بدعوى المعرفة بنفسية الفنان وتجربته الحياتية، الكفيلة بإظهار طبيعة إبداعه الفني، وفي هذه الحالة يصبح الفنان من العمل الفني، بمثابة "مبدأ التفسير" ما دامت معرفتنا به مستقلة عن أي إنتاج فني، أو ما دامت حياته كإنسان، سابقة في نظرنا على حياتـه كـفـنـان.

يرى الدكتور عاطف البطرس في كتابه "حنا مينة المعيش والمتخيل"، أنه حين يمـضي الباحث من الفنان إلى عمله الفني، فإنه عندئذ، يفترض أن الدراسة الحياتية للفنان، هي المفتاح الأوحد لفهم طبيعة إنتاجه الفني، بينما عندما يمضي الباحث بالعكس من العمل الفني إلى صاحبه، فإنه يصدر عن إيمان علمي بموضوعية الظاهرة الفنية. ومعنى هذا أن الموضوع الجمالي (الإنتاج الإبداعي) هـو وحـده الذي يمكن أن يحدثنا عن نفسه، أو هو الذي يمكن أن يفسر لنا ما فيه من حقيقة جمالية، وهو وحده الذي يستطيع أيضاً أن ينطـق باسم صاحبه.

بوسعنا القول إن أصدق ترجمة لحياة الفنان، هي تلك التي تظل مخلصة لإنتاجه، لا لملابسات إبداعه أو مصادفات حياته. الأهمية النظرية والمعرفية هي لقضية العلاقة المتبادلة بين التجربة الحياتية والتجربة الإبداعية للكاتب (علاقة الفن بالواقع).

وبالتالي أراد الناقد الدكتور عاطف عطا الله البطرس في كتابه "حنا مينة المعيش والمتخيل" أن يطرح مجموعة من الإشكاليات الجدلية في العمل الفني لدى حنا مينة نفسه أنه إذا كان من الخطأ أن تفصل الفن عن الحياة فصلاً مطلقاً، فإنه قد يكون من الخطأ أن تربطه بالحياة ربطاً مطلقاً، ما دامت مهمة الفن على حد تعبير "لا لو" تنحصر في خلق عالم خيالي معابر لعالمنا الواقعي بوجه من الوجوه. وإذا كان البعض قد توهم أن العمل الفني لا بد أن يكون، بالضرورة علامة مكافئة للشخص الذي أبدعه، فإن كثيراً من علماء الجمال يقرون على العكس من ذلك أنه ليس من الضروري أن يجيء الفـن دائماً، مساوياً لصاحبه. ولعل هذا ما عاناه فلوبير، حينما كتب في رسالة بعث فيها إلى لويز كوليه يقول: "تسألينني عما إذا كانت الأسطر التي بعثت بها إليك قد كتبت خصيصاً لك، فلعلها الغيرة هي التي تدفعك إلى التوق شوقاً، لمعرفة من كتبت لأجله، إذاً فاعلمي أنها لم تكتب لأحد، مثلها كمثل كل ما عداها مما كتب، لقد حرمت على نفسي دائماً أن أضع شيئاً من ذات نفسي مع مؤلفاتي، ومع ذلك فقد وضعت فيها الشيء الكثير".

إذاً ليس العمل الفني في رأي فلوبير صورة مطابقة لشخصية صاحبه، بـل هـو إنتاج مستقل يحمل طابعاً لاشخصياً، يشهد بموضوعيته. ومع ذلك، إذا سلمنا مع بعض النقاد، بأن أدب فلوبير مثلاً يكاد يكون في معظمه أدباً واقعياً موضوعياً، وأن أدب ستندال أو بروست مثلاً يكاد يكون في معظمه أدباً شخصياً ذاتياً، فهل يكون معنى هذا أن أدب فلوبير، في نظرنا، أقل شاناً أو أدنى درجة من أدب ستندال أو بروست، ومن ينطبق على هؤلاء ينطبق على حنا مينة؟

يرى الكاتب أنه مهما استند الفنان في أعماله الفنية إلى حياته الشخصية، "كحنا مينة"، فإنه لا يمكن أن تكون ذاته وحدها هي مصدر أغذيته الروحية؟ بل ألسنا نلاحظ أن للعمل الفني حياته المستقلة، لأنه يتكون خارجاً عن حياة الفنان العادية، في عالم صوري بحت وكأنما لا يخضع إلا لقوانينه الخاصة، فضلاً عن أنه قد يكون بمثابة أداة تزيـد مـن سـعة وجودنا أو امتداده أو شدته، إن لم نقل أحياناً، إنه قد يساعدنا على أن ننسى أو نتناسي وجودنا؟

ألم يقل جيد بصريح العبارة: "إن مؤلفاتنـا ليست بمثابة أقاصيص واقعية تروي حياتنا، وإنما هي بالأحرى رغبات شاكية، تعبر عن نزوعنا نحو حيوات أخرى، ظلت محرمة علينا، وحنيناً إلى الإتيان بأفعال أخرى بقيت متعذرة أو مستحيلة بالنسبة إلينا".

وبهذا المعنى يقول الكاتب حنا مينة: "إن القصة التي أكتبها، ما إن أنتهي منها حتى أصبح قارئاً لها، أجد نفسي فيها، وأتلمس مصيري في حياة أبطالها". لعل الصحيح أن الإنسان يكتب عما هو كائن، مع الرغبة فيما يجب أن يكون، ويمكن أن يطلق على هذه العملية اسم "التعويض في الحلم"، فحين تصور شهيداً، نصوره فيمـا كـان هـو وفيما نحلم لو وضعتنا الحياة في مكانه، وهذا هو الوجه الآخر لعملية الحضور في المستقبل، ولشعور الغربة لأبطالنا، فهـم منـا، وغرباء عنا في آن، لأنهم يملكون في واقعهم الفني درجة حياتية أغنى وأكثر قابلية للاستمرار منا في واقعنا الدور المنهجي للعلاقة بين التجربة الحياتية للكاتب وإبداعه.

ويرى البطرس أن علماء الجمال والنقاد يذهبون إلى أن العمل الفني، ليس مجرد صدور مباشر عن الشخصية أو ترجمة ذاتية لصاحبه، وإنما هو بلورة لحياة الفنان لا مجرد امتداد لها، وربما كانت صعوبة الفن إنما تكمن على وجه التحديد، في أنه قلما يتطلب من صاحبه أن يسرد علينا تاريخ حياته، بعد أن يدخل فيه بعض التعديلات أو التحويرات أو (الرتوش)، فهو يفرض عليه في معظم الأحيان، أن يتخذ من فرديته التجريبية.

لعل حنا مينة ودراسته من الناحية الفكرية وليس الأدبية الروائية، جعل البطرس يطرح في كتابه هذا موقف عدم الاكتراث أو اللامبالاة، فإذا كان بعض النقاد قد دأب على القول "كما يكون العمل الفني فهكذا يكون الفنان أيضاً"، فإن "لالو" يحاول في دراسته الجمالية القيمة، للعلاقة بين الفـن والحياة، أن يبين لنا بكل وضوح أن الفنان لا يضع إنتاجه، صميم شخصيته، أي ما هو عليه بالفعل، وإنما يضع ما يعتقد أنه كانه أو ما يريد أن يكونه، أو ما هو عاجز عن أن يكونه، أو ما يخشى أن يكونه حقاً. إن الفنان - كما قال بعض علماء النفس إنما يكون نفسه حينما يكون أعماله الفنية، ولكن العمل الفني قد يجيء بمثابة تعبير عن رغباته المكبوتة، أو مثله العليا أو حياته الباطنية الدفينة، فيكون إنتاجه الفني في هذه الحالة، مجرد محاولة شاقة من أجل الإمساك بالحلم، واحتباسه في صورة مادية. ومعنى هذا أن العمل الفني ليس بالضرورة، نسخه طبق الأصل من شخصية صاحبه، بدليل أن كثيراً من الأعمال الفنية الرائعة صدرت عن شخصيات منحرفة أو نفسيات ضعيفة. وحسبنا أن نتذكر أن "غوغان" كان عربيداً، وأن "شوفان" قد مات مأفوناً، وأن "رامبو" آثر جمع المال على قرض الشعر، وأن "كلوديل" نفسه لم يفهم شيئاً مما أنتج، لكي تتحقق من أنه ليس من الضروري أن يصدر العمل الفني عن حياة فنية مثالية.

إن هذا كله لا يعني على الإطلاق أن لا علاقة بين العمل الفني وصاحبه، فمن المؤكد أن وشائج القرابة قائمة بين الفنان ووليده الروحي، وإن كانت أمارات الشبه بينهما قد تتجلى على أوجه عديدة ومتنوعة.

أراد الدكتور عاطف البطرس من خلال بحثه هذا، الذي درس فيه أكثر من تسع عشرة رواية وسبعة أعمال لحنا مينة، أن يصل إلى فكرة مفادها أن العلاقة بين الفنان وعمله الفني، هي علاقة تشابه في اختلاف، أو اختلاف في تشابه، فالعمل الفني، هو بمعنى من المعاني، حقيقة مستقلة قائمة بذاتها، وكأنما هو موجود روحي، له كيانه الخاص المستقل عن شخص صاحبه، ولكنه من جهة أخرى، هو الفنان نفسه، بوصفه صادراً عن إرادته التي عملت على تكوينه. إن العمل الفني هو الفنان ما دام هو إرادته وما دامت تلك الإرادة قد نجحت في تكوينه، ولكن العمل الفني من جهة أخرى هو في ذاته ولذاته، طالما أنه قد خرج من الذات الإبداعية للفنان، ومن إرادته، لتكون له حياته المستقلة. درس الكاتب نمذجة وتعميم البطولة وأخلاقية الكاتب وأبطاله، ومسؤولية الشكل والمضمون، وسرد تجربة الشباب والنضوج، وانعكاس تجربة حنا مينة على أعماله الروائية، والضوء على رؤيته في تشكل العالم، ليتكون عالم المعيش والمتخيل.

----

الكتاب: حنا مينة المعيش والمتخيل

الكاتب: د. عاطف عطا الله البطرس

الناشر: دار الينابيع، دمشق، 2004