يقول بول كلي "اللون هو المكان حيث يتلاقى عقلنا والكون". لطالما كانت للألوان رمزيتها ودلالاتها الجمالية والدينية والتاريخية وحتى الاجتماعية, تبعاً للسياق الاجتماعي والثقافي الذي يُنظر فيه إلى اللون, فقد اكتست سحراً يضاهي سحر الكلمات والأنغام, يكاد يفوح عبقها مثل الروائح الزكية والعطور.

ما إن يذكر أمامنا لون، حتى يثير في الذاكرة شعور محدد، وجعلوا لكل لون إشارات سيكولوجية. وكانت الألوان منذ الأزل ساحة للمعارك الفلسفية والعلمية المتأججة, ولا زالت تخضع للتحليل والدراسات. ومنها كتاب (قصة الألوان) للمعماري والمصمم الإيطالي مانليو بروزاتين, الصادر منذ فترة غير بعيدة عن هيئة البحرين للثقافة والآثار؛ حيث يتقصى فيه أسراره وتلمس معانيه. يتناول فيه من ناحية فلسفية وفنية وفيزيائية وتاريخية توصيف الألوان وتصنيفها, وتحديد هويتها ودلالاتها المتباينة والمشتركة بين الشعوب والأمم والأديان, من عصر نيوتن وبول كلي وفيتغنشتاين, إلى تأملات فكرية وفلسفية معاصرة مختلفة, بالإضافة إلى تاريخ صنع الألوان والاستعمالات المختلفة لها, وتحولاتها عبر العصور, انتهاء بتأثير الصناعات الكيميائية عليها. حتى ليقال إنها إحدى الظواهر الكلية التي يتميز بها البشر عن الحيوانات- التي يقال إنها لا ترى الأشياء ملونة.

يتناول بروزاتين في الكتاب طرق الإدراك المختلفة للألوان، متخذاً من اللونين الأحمر كلون أنثوي، والأزرق كلون ذكوري، مثالاً في التعسف المصاحب لإدراك المعاني المتعددة لكل لون، وكيف أن تلك الإدراكات القاصرة التي بنيت على إدراكات أخرى سبقتها، دون محاولات لاستكشاف الألوان، تؤدي إلى عزل اللون عن الإدراكات المتنوعة والمغايرة التي يحملها، وهنا يستعيد بروزاتين التاريخ المادي والثقافي للألوان، وارتباط كل لون بثقافة وحضارة معينة، سواء عن طريق النباتات أو التوابل أو الأحجار الكريمة أو الأشجار التي تنمو فيها.

يعرج الكاتب في البداية على تمايز دلالة اللون لدى الحضارات وتعاملها معه. يذكر كيف كسا المصريون القدماء كهنتهم باللون الأبيض, لارتباطه بالنظم الأخلاقية, في مقابل إيثار الحضارة الصينية للون الأسود اللمّاع. مثلما كان ثمة إيثار لدى شعوب أخرى على ألوان فيزيقية وأخرى فيزيولوجية, مثل اللون الأحمر القاني والأخضر وغيرهما. ولكن إن كانت ثمة ألوان قد تغيرت أفكارنا عنها على مر التاريخ, هناك بعض الألوان أكثر مقاومة ورسوخاً, ولم تتغير عنها الأفكار بشكل كبير.

ويوغل بروزاتين في معاملة الألوان تماماً كالأرواح, ويحكي كيف تعرضت بعض الألوان للإقصاء من ثقافات مختلفة, مثل اللون السماوي الذي تجاهله الإغريق, بعكس اللون الأحمر الذي تم تمجيده بأشكال مختلفة, منها الزي الحربي الإسبارطي الصوفي الأحمر.

في جزء أقرب إلى التوثيق التاريخي، يورد الكاتب أهم المخطوطات والكتب التي تناولت الألوان وطرق تصنيعها، في الحضارات المصرية القديمة، والبيزنطية، والهيللنستية، والبربرية، والرومانية المتأخرة، ويعرض الروابط التي تربط بين تلك المخطوطات، للوصفات السرية التي وضعها أقدم الصباغون، والحرفيون قرابة عام 400 م، أثناء التبادل بين الغرب والشرق على البحر المتوسط بين روما والقسطنطينة. ويعرض الكاتب لانتقال مهارات الصباغة والتلوين، من الحضارة المصرية، الفرعونية والرومانية، إلى شعوب القارة الأوروبية واللاتينية (الكتابة) وقد تجسّدت، بداية، بكتابة المنمنمات أو الكتب الصغيرة المزركشة، وتالياً في صباغ الأقمشة المختلفة الألوان، والمتفاوتة الأشكال، بتفاوت الطبقات الاجتماعية الصاعدة، في القرون الوسطى.

تشرح المخطوطات طرق طحن الأحجار والخلاصات النباتية، وأسرار المثبتات والعناصر المستخدمة، لتجفيف الألوان وديمومتها على مختلف الوسائط، بطرق تحاول تجريب مواد مختلفة تحل محل المواد الملوثة القابلة للفساد، التي ظلت قيد الاستعمال لفترات طويلة، بمواد أخرى أكثر نقاء وخلوداً، مثل زيت الجوز، وزيت الخشخاش، وزيت الكتان، ممزوجة بخلاصات مستخلصة من خشب السرو، ويستعرض كيف أثرت تلك الأسرار والصناعات على هجرة الحرفيين بين الدول المختلفة.

انتشر الإنتاج الصناعي للألون في مناطق مختلفة من أوروبا، خاصة في ألمانيا، في حين شجعت صناعة النسيج في إنكلترا, مع بداية الثورة الصناعية على استيراد الألوان والأصباغ من مستعمراتها المختلفة. بعد ذلك أكمل عمل المصانع والابتكارات الكميائية خطة إنتاج اللون صناعياً، بهدف الوصول إلى نوعيات لونية نقية، ذات لون غير زائل مهما تعرض للعوامل الزمنية، الأمر الذي تحقق في بداية القرن العشرين بالملونات الصناعية التي بدأت في القضاء تماماً على الألوان القديمة، والتي دلّت على إمكان الصناعيين خلط الألوان، واستخراج بعضها من بعض، وتبييض بعضها، من خلال عمليات كيميائية مدروسة. حتّى ليمكن القول إنه بات في متناول الأيدي صنع الألوان كيميائياً، وإنتاج الأقمشة والستائر والأثواب والأزياء والأوراق، وكلّ المواد المستهلكة والداخلة في الصناعة والحرَف على السواء، ملوّنة ومزخرفة وبما يناسب الزبائن والمستهلكين أينما كانوا.

وعن نظريات الألوان يستعرض بروزاتين بشكل تقني النظريات المختلفة للألوان بدءاً من أرسطو الذي اعتبر اللونين الأزرق والأصفر هما اللونان الأساسيان والحقيقيان, فيما يتعلق بأقطاب الحياة. بالإضافة إلى ذلك ربط أرسطو بين الألوان والعناصر الأربعة النار, الماء, التربة, الهواء.

اعتمد الفنانون عالمياً على مبادئ أرسطو وطبقوها لمدة ألفي عام، حتى ظهرت نظريات نيوتن للألوان المثيرة للجدل، وكتابه "علم البصريات" عندما بدأ نيوتن في تحليل الضوء الأبيض من خلال المنشور الثلاثي، ليجد أن الأطوال الموجية للضوء تنكسر في زوايا مختلفة، ما مكنه من رؤية المكونات المنفصلة أو ألوان الطيف الشمسية السبعة.

وفي مواضع تالية من الكتاب، يعرض بروزاتين لنظريات اللون لدى الفلاسفة الحديثين، لما بعد القرن السابع عشر، مواصلين انتقادهم للأوائل، وواضعين نظريات تتفق واتّجاهاتهم الفكرية والفنية الأحدث. فهذا الشاعر الألماني غوته يضع "نظرية الألوان" والتي يقترح فيها جدولاً للألوان، يتدرّج فيها كلّ لون أساسي (الأحمر، والأزرق، والأصفر) إلى لون آخر أقلّ أو أكثر تركيزاً (بين الأحمر والأخضر، والبنفسجي والأصفر، إلخ). وقد اعتبر غوته أن "الألوان ليست وليدة طبيعية للضوء، إنما هي تعديلات يستقبلها (المرء) عند انعكاسها وإرسالها من الأجسام، إلاّ أنها تظلّ عرضة لتغيّرات لانهائية".

فيما ربطت نظريات فاسيلي كاندنسكي للألوان بين شكل الألوان والنغمات الموسيقية، وظل توزيعه للألوان فريداً، لأنه يأخذ الألوان إلى أصلها: الحار والبارد، وقوتها الطاردة والجاذبة، المقاومة للعالم، ليظهر لنا أن للألوان روحاً وحياة ومعاناة وصمتاً، ربما لا نشعر به إلا أنه يشبه صمتاً موسيقياً أو لحناً موسيقياً.

----

الكتاب: قصة الألوان

الكاتب: مانيليو بروزاتين

ترجمة: السنوسي استيته

الناشر: هيئة البحرين للثقافة والآثار