يقول إدواردو غاليانو في كتابه "كرة القدم في الشمس والظل" إن كرة القدم، هي مرآة للعالم. وهي تقدم ألف حكاية وحكاية مهمة. فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس، وفيها يتبدى الصراع بين الحرية والخوف.

وصف إدواردو غاليانو نفسه في مقدمة كتابه بأنّه مجرّد متسوّل يطلب كرة قدم جيدة، وفعلاً فقد ظهر في صفحات الكتاب ناقداً لكلّ أفعال الرداءة التي تأتي لتشوّه الوجه الأبيض المضيء للعبة كرة القدم، والتي تعمل على تفريغها من صفتها كلعبة للمرح والاستمتاع، وتحوّلها إلى مجرّد استعراض تجاري جالب للربح، أو كما عبّر عن تُحوّلها إلى عمل تجاري "لا يتمّ تنظيمه من أجل اللعب وإنما من أجل منع اللعب!".

انطلاقاً من أكثر من مئة مرجع، أعاد إدواردو غاليانو "إلى بؤرة الضوء حشداً كبيراً من الذكريات واللحظات الساحرة، تلك التى تنسينا أن كرة القدم الاحترافية هي رهن بقوانين السوق". بعد صدور كتابه صرّح غاليانو "كنت أريد من محبّي القراءة أن يتخلّصوا من خوفهم من كرة القدم، وأن يتخلّص مشجعو كرة القدم من خوفهم من الكتب"، ليكون هذا الكتاب تكريماً لهذه اللعبة واحتفاء بأضوائها وتشهيراً بظلالها.

يعيدنا المؤلّف إلى ثلاثة آلاف سنة خلت، بدايات كرة القدم مع الصينيين لينتهي حدود مونديال كأس العالم 1994 في الولايات المتحدة الأمريكية، فتاريخ اللعبة حسب غاليانو "هو رحلة من المتعة إلى الواجب، فكلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولّد من متعة اللعب لمجرد اللعب"، ويضيف ناقداً تحوّل اللعبة إلى عمل تجاري مربح مما أفقدها جماليتها قائلاً "لقد راحت تكنوقراطية الرياضة الاحترافية تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة، وتستأصل المخيّلة وتمنع الجسارة".

لكن من مونديال الأوروغواي 1930 إلى مونديال 1994 في الولايات المتحدة، أرّخ غاليانو لأحداث سياسية وأدبية وثقافية جامعاً بين الأسلوب التقريري والأسلوب الساخر مكرّراً في أغلب فقرات الكتاب هاته الجملة "مصادر شديدة الإطلاع في ميامي تعلن أن سقوط فيدل كاسترو صار وشيكاً، وأن انهياره هو مسألة ساعات فقط".

إنّ غاليانو الذي اشتهر بأنّه كلما كان مشغولاً بالفرجة في بيته، يضع على بابه ملصقاً ويكتب عليه: "مغلَقٌ من أجل كرة القدم"، لا يتعامل في كتابه مع تاريخ كرة القدم باعتباره تاريخاً منفصلاً عن تاريخ العالم، بل يعمل طوال صفحاته على تأكيد ذلك الارتباط الوثيق بين تاريخ كرة القدم وتاريخ العالم، فهو يحرص على توضيح أنّ كرة القدم طالما كانت وسيلة استخدمتها الحكومات الديكتاتورية المناهضة للديمقراطية في تقديم نفسها كممثلة للشعب والوطن وناطقة باسمهما، وعن ذلك يذكر حادثة فوز إيطاليا في مونديال عام 1938، عندما حصل اللاعبون على الكأس، باسم وطنٍ يمثله موسوليني، وكانوا يُجبرون في بداية ونهاية المقابلات، على توجيه التحية الفاشية (رفع اليد مفتوحةً تحيَّة للدوتشي). أي أن غاليانو لا يتعامل في كتابه مع تاريخ كرة القدم باعتباره تاريخاً منفصلاً عن تاريخ العالم، بل يؤكد على ذلك الارتباط الوثيق بينهما.

واللافت في الصفحات الأولى في كتاب غاليانو هو أنّه يُعيد مَفهمة وتعريف المفاهيم الرئيسة في اللعبة، ويأتي وكأنّه يبني قاموسه الخاصّ فيما يتعلّق بها، فالحَكم عند غاليانو هو "الطاغية البغيض الذي يمارس ديكتاتورية دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المغلقة فيما الصفارة في فمه؛ حيثُ ينفخ الحكم رياح القدر المحتوم". واللاعب في نظره هو الذي "يركض لاهثاً على شفير الهاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار". أما حارس المرمى فهو في منطقه "البوّاب، والغولار، وحارس حاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرج الذي يتلقى الصفعات، ويقولون إنّ المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبداً"، والجول كما يراه "ذروة المتعة في كرة القدم".

ولا يكتفي غاليانو في كتابه بتسليط الضوء على الجانب الأسود لكرة القدم كوسيلة احتكرتها الحكومات الديكتاتورية وقدّمت نفسها من خلالها للعالم، بل إنّه يَعمل على تبيان الجانب المضيء من اللعبة باعتبارها وسيلة من وسائل المقاومة التي استخدمتها الشعوب في مناهضة القوى الديكتاتورية والاحتلال والاستعمار، ويَسرد عن ذلك ما قام به لاعبو نادي "دينامو كييف" السوفييت في عام 1942، الذين وجّه إليهم الاحتلال النازي الألماني تحذيراً آنذاك وحذرهم فيه من مغبة الفوز على المنتخب الألماني، حيثُ قيل لهم: "إذا انتصرتم، ستموتون"، ورغمَ ذلك دخل السوفييت إلى الملعب مستسلِمين، مرتعشين من الخوف، ولكنهم لم يستطيعوا تقبُّل فقدان كرامتهم، ففازوا وتمَّ إعدامهم بقمصانهم الرياضية.

----

الكتاب: كرة القدم في الشمس والظل

الكاتب: إدواردو غاليانو

ترجمة: صالح علماني

الناشر: دار ممدوح عدوان، دمشق، 2022