تعتبر الأهلية أساس المسؤولية العقلية، ويعتبر العقل والتمييز أساس الأهلية. بهذه المعادلة يتم البحث عن المسؤولية العقلية وإدارة الخبرة الطبية النفسية في الطب الشرعي، في الكشف عن حقيقة الجريمة وما يوجد خلف الكواليس من أسباب تتعلق بالجوانب النفسية محفزة لارتكاب الفعل وآليات اكتشافها.

يتناول الدكتور بسام محمد، أستاذ الطب الشرعي في جامعتي البعث والأندلس، المسؤولية العقلية، وامتلاك القدرة الذهنية القانونية على تصنيف الأمراض النفسية وفقاً لمنظور المشرع السوري، وإنجاز الخبرة الطبية النفسية، بهدف الوصول إلى الأهلية الجزائية والأهلية المدنية. ويشير إلى وجود أهلية أداء مناطها العقل والتمييز وأهلية وجوب مناطها الحياة الإنسانية. وفي الحالتين قد تكون الأهلية إما ناقصة عندما يكون الشخص تحت السن القانوني وتشمله من عمر يوم وحتى 18 سنة، أو أهلية كاملة تأتي بعد هذا العمر حيث يعتبر الشخص مسؤولاً عن أقواله وأفعاله السابقة والمستقبلية، وذلك لكون الشخص تجاوز سن البلوغ وهو سن الرشد وسلامة العقل.

الدافع والحالة النفسية

يبين الدكتور محمد أن أركان الجرائم تنقسم إلى جزأين مادي ومعنوي، ويشمل المادي عملية القيام بالفعل أو الامتناع عن القيام بفعل وما ينتج عن ذلك من نتيجة، أما بالجانب المعنوي فإن أركانه العلم والإرادة. وبالتالي فأركان الجريمة هي الفعل وما نتج عنه من نتيجة ضارة بوجود الإرادة والعلم للقيام بها. وعليه فإن العلم في مسألة التجريم يفترض أن يكون لدى المجرم معلومات معينة ولديه القدرة على الإدراك. بينما الإدراك هو حالة ذهنية نفسية تؤثر على القرار في ارتكاب الجريمة وتعطي الأمر لأعضاء الجسم الأخرى للقيام بالفعل. ومن هنا تأتي أهمية البحث عن الدافع في ارتكاب الفعل الإجرامي لكونه يعتبر حالة نفسية دافعة لتحقيق غاية وإشباع حاجة. وبالتالي هو ليس عنصراً من عناصر التجريم إلا في أحوال محددة، وقد يكون للدافع دور تخفيف أو تشديد العقوبة. بينما القصد هو نشاط ذهني واع يتمثل بمعرفة الفعل والنتيجة ويهدف إلى تحقيق غرض بإرادة فاعله.

فلسفة العقوبات

بالحديث حول أساس المسؤولية العقلية الجزائية يوضح لنا الباحث أن فلسفة العقوبات الجزائية تقوم على حرية الاختيار لكون لكل إنسان عقل واع وإرادة حرة ومسؤولية أخلاقية. وما دام الإنسان حراً وواعياً فعليه تحمل تبعية أفعاله، وكل من يرتكب فعلاً آثماً عن وعي وإرادة، فهو مذنب، وبالتالي تكون ردة الفعل الطبيعي للمجتمع لتحقيق ردع عام وخاص هي العقوبة. ولكن في حال إثبات وجود مؤثرات داخلية مثل (أمراض نفسية وعصبية) تؤثر على حرية الاختيار، فهناك مسؤوليات تقع على عاتق الخبرة الطبية. على سبيل المثال إذا كان الشخص حر الاختيار ولديه القدرة على توجيه السلوك نحو فعل معين من دون وجود مؤثرات خارجية تعمل على تحريك الإرادة، فإن موانع العقاب تتجلى في القوة القاهرة (الإكراه أو وجود حالة الضرورة). وفي حال كان هذا الشخص يمتلك القدرة على تمييز الفعل وتقدير نتائجه والتفريق بين الصح والخطأ، فإن موانع العقاب تتمثل إذا كان هذا الشخص صغير السن أو في حالة سكر أو متعاطي مخدرات.

وبشكل عام يبين الدكتور بسام محمد أن موانع العقاب تكون أولاً في حالة الجنون لكونه حالة عقلية وعصبية يفقد المصاب بها إدراكه وقدرته على توجيه أفعاله مثل الصرع أو الهيستريا أو السير أثناء النوم. فيكون الحكم في هذه الحالة هو عدم المسؤولية الجزائية ووضعه في مأوى احترازي عند الضرورة. أما في حال السكر والتسمم بالمخدرات وهي مواد تفقد الإدراك والقدرة على توجيه الإرادة، فإن العقاب يتمثل بعدم المسؤولية، أما السكر عن غير قصد فهو يسأل عن الجرائم التي يرتكبها وتعتبر غير مقصودة. بينما إذا تقصد أن يكون في حالة سكر أو توقع ذلك، فإن الجرائم هنا مقصودة، ويحدد له العقاب.

أعذار مخففة

يعتبر المشرع السوري أن المخدرات أو المسكرات هي مواد تنقص الإدراك وتؤثر على القدرة في توجيه الأفعال. كما يعتبر العته وهو حالة عقلية وراثية أو مكتسبة تنقص قوة الوعي أو الاختيار عند الجاني، من الأعذار المخففة. وهناك الإثارة وهي أيضاً حالة نفسية تنقص قدرة الشخص على توجيه إرادته والسيطرة عليها، ومن شروطه وجود غضب شديد وسببه عمل غير محق وعمل المعتدى على قدر من الأهمية. وعليه فإن تأثير هذه الأمراض على الوعي والإدراك والاختيار في حالة ارتكاب الجرائم تحتاج حتماً إلى خبرة الطب الشرعي.

وهناك أسباب أخرى إضافة إلى الأسباب المتعلقة بالطبيعة الفيزيولوجية، وهي أيضاً تؤثر في طبيعة الحكم وتحتاج إلى دقة في عمل الطبيب الشرعي، وهي ذات طبيعة مادية كتفاهة الضرر وعدم خطورة الوسيلة المستعملة في الفعل الإجرامي وإسقاط المجني عليه لحقه الشخصي أو ارتكاب الجريمة لأول مرة في حياته وندمه.

وبالتالي تكون العقوبات إما جناية أو جنحة أو مخالفة بحسب الفعل وظروف ارتكابه، وبالتالي فإن الأعذار المخففة في حكم الإعدام تكون بالحبس المؤبد أو من 12 حتى 20 سنة، والتخفيف بالحكم المؤبد يكون بالحبس من المؤقت بمدة لا تقل عن 10 سنوات. أما الجنحة فإن العقوبة المخففة قد تصبح دفع نصف الغرامة.

أسباب مشددة

في إدارة الخبرة الطبية النفسية حول الأسباب المشددة، يركز الباحث على موضوع القتل العمد ومنه قتل الأصول والفروع، ومن أسباب التشديد هو التكرار، أي عودة المحكوم عليه بعقوبة جزائية إلى اقتراف جريمة أخرى أو أكثر، وأيضاً وجود الاعتياد، وهو اعتياد نفسي دائم فطري أو مكتسب لارتكاب الجنايات أو الجنح. وهي أمور تشكل خطراً على السلامة العامة في المجتمع. وبالتالي فإن تشخيص حالة الاعتياد على ارتكاب الجرائم يحتاج حتماً إلى خبرة طبية نفسية وشرعية.

وهنا يشير الدكتور إلى نظرية الحجر المتعلقة بالأهلية أو عوارض أهلية الأداء. فالحجر يقع على التصرفات القولية فقط، سواء كانت عقدية أم غير عقدية، ولا يقع على التصرفات الفعلية كالقتل أو التلف، وذلك لعدم إمكانية المنع بعد وقوع الجريمة. ويرى أن دراسة القدرة لدى الشخص على الاختيار ودراسة درجة الوعي لديه، هو المقياس لتصنيف المسؤولية العقلية لديه، وبالتالي درجة أهلية ارتكابه للفعل والجريمة.