يبيّن د. إسكندر لوقا في كتابه "الحركة الأدبية في دمشق 1800 – 1918"، أنه يتعذر على دارس الحركة الأدبية في دمشق أن يتلمس اتجاهاً أدبياً بالمعنى المتعارف عليه في يومنا هذا، خلال السنوات الممتدة من 1800 حتى 1875، إلّا أنه وبعد ذلك التاريخ حدث تبديل على صورة هذا الواقع بفعل التغيرات التي أصابت البنية الثقافية داخل المدينة.

ومن هذه التغيرات ظهور الطباعة والصحافة والمسرح، فضلاً عن اتصال متنوري دمشق بأسباب اليقظة الفكرية التي بدأت في أرجاء مختلفة من أوروبا، وتسربها خلال القرن 19 إلى أجزاء مختلفة من الولايات الغربية الخاضعة للسلطة العثمانية، وإلى بعض المدن الرئيسية في الولايات العربية كالقاهرة وبيروت. وهكذا بدأ الدارس يلمح بما لديه من وسائل اتجاهات أدبية أقرب إلى مفهومنا المعاصر. وقد قسّم د. لوقا تلك الاتجاهات إلى اتجاهات رئيسية هي: الاتجاه السكوني (السلفي أو المحافظ)، والاتجاه الانتقائي (الإصلاحي)، والاتجاه المستقبلي (الذي يحاول تجاوز المعوقات التي تشد المفكرين إلى الوراء، أو تجعلهم يدورون في مواقعهم).

التعليم

حتى بعد أن أصبحت سورية ولاية في عام 1864، لم تعرف حياة تعليمية، وبقيت الدولة العثمانية بعيدة عن رفد هذا القطاع بما يكفل له الانتظام والتطور. على أن ردة الفعل التي أحدثتها الحملة الفرنسية والوجود المصري في بلاد الشام، وما رافق ذلك كله من الاحتكاك بثقافة العرب، كانت من الأسباب المباشرة التي اضطرت الدولة فيما بعد إلى استصدار "الخط الهمايوني" عام 1865، والذي نصّ وعد بإجراء إصلاحات تشمل قطاع المعارف والمالية والمواصلات والزراعة والتجارة، وبقي حبراً على ورق حتى إعلان نظام إدارة المعارف في سنة 1869، فكان صدوره عاملاً مكّن والي دمشق مدحت باشا من ممارسة سياسة تعليمية مغايرة لما كان يجري في السابق.

وفي العام 1882 صدر نظام مجلس المعارف الذي لم يكن هدفه تعليمياً إصلاحياً، ذلك بدليل أن اللغة العربية احتفظت بموقعها المتأخر بين المناهج التعليمية المطبقة في أرجاء لولاية.

وفي أوائل القرن 20 لم يكن حال المدارس في دمشق أفضل حالاً من القرن السابق، حيث لم يكن فيها خلال السنوات القليلة الأولى من هذا القرن سوى مدرسة ثانوية واحدة (المكتب الإعدادي)، إلا أن الدمشقيين كانوا يسمونها "مكتب عنبر"، حيث كانت لغة التدريس فيها تركية بما في ذلك النحو والصرف، وكان المدرّس شيخاً تركياً مسناً أرسلته الدولة لتعليم اللغة العربية، ولقد كُرست المناهج التعليمية لخدمة اللغة التركية وإرضاء نزعات بعض الفئات الدينية، ما جعل التعليم على المستوى الحكومي قاصراً عن تمثل روح العصر ومجاراة فكر الغرب في تطلعاته.

الطباعة

في العام 1855 استقدم أحد أبناء دمشق وهو حنا الدوماني أول مطبعة حروف من أوروبا، عُرفت باسم "مطبعة الدوماني" وبقيت المطبعة الوحيدة في دمشق حتى عام 1864 تاريخ إنشاء الحكومة العثمانية أول مطبعة لها باسم "مطبعة ولاية سورية"، والتي طبعت بواسطتها أول جريدة صدرت في دمشق "جريدة سورية" باللغتين العربية والتركية، ثم أعقبتها مطبعة ثالثة حكومية "المطبعة العسكرية".

وفي عام 1893 أنشأ خالد أفندي عطار حسن مطبعة "روضة الشام"، ثم توالى بعدها قيام المطابع في دمشق، إلا أن قلة عددها وإحكام القيود على نشر المؤلفات عليها، جعلها عاجزة عن القيام بدور الأداة التثقيفية بالمعنى المعاصر لهذه العبارة.

ولقد كان ظهور الطباعة في دمشق 1865 بداية لتاريخ تكوّن المكتبات العامة فيها، فشهدت دمشق أول مكتبة عامة في تاريخها الحديث وهي "المكتبة الظاهرية" عام 1879، وفيما يخص مكتبات الكنائس والأديرة، فلم تشهد دمشق في عام 1900 إلا ثلاث مكتبات في ثلاثة أديرة.

الصحافة والجمعيات الأدبية

لم تشهد دمشق صدور أولى جرائدها حتى العام 1865 وهي "جريدة سورية"، وبقيت يتيمة حتى إصدار جريدة "دمشق" عام 1879، وبعد ثمانية أعوام أنشأ مصطفى واصف جريدة "الشام"، ومع صدور دستور عام 1908 تضاعف عدد الصحف في دمشق حتى بلغ 37 صحيفة في سنة 1915، لكنها عُطلت جميعاً باستثناء "جريدة سورية" الرسمية بسبب عودة سياسة التضييق.

وفيما يخص صدور المجلات، فقد صدرت بين عامي 1886 و 1913 تسع مجلات، لم تتطرق لأي من الموضوعات السياسية، ما جعلها في منأى عما أصاب أصحاب جرائد دمشق من التعسف، وقد شكلت سجلاً للتيارات الفكرية التي رسمت هواجس الأدباء والشعراء في تلك الفترة.

وما أصاب التعليم والطباعة والصحافة في دمشق أصاب الجمعيات الأدبية، فحتى عام 1874 لم يكن لها أثراً على الإطلاق، وبعد ذلك التاريخ قامت في دمشق خمس جمعيات من عام 1874 حتى 1907.

المسرح

كانت الانطلاقة الحقيقية لفن التمثيل في دمشق عام 1878 عندما وضع أبو خليل القباني حجر الأساس لهذا النشاط. ولقد كان لبرنامج والي دمشق مدحت باشا في رعايته الحركة المسرحية أثره العميق في نفس أبي خليل القباني، الذي قدم مع إسكندر فرح مسرحيتي "عايدة" و"الشاه محمود" في "جنينة الأفندي" في باب توما.

وفي العام 1908 تألفت في مكتب عنبر فرقة تمثيلية قدمت مسرحية "طارق بن زياد"، وفي عام 1909 قررت جمعية "النهضة العربية" تمثيل رواية خُصص ريعها لغرف القراءة التابعة لها.

ورغم ما لحق الحركة المسرحية في دمشق من التأييد أو الشجب، فمما لا شك فيه بحسب د. لوقا أنه كان لها شأنها وموقعها في خدمة الأغراض القومية والفكرية على حد سواء.

----

الكتاب: الحركة الأدبية في دمشق 1800 – 1918

الكاتب: د. إسكندر لوقا

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق